المجاهد الطبيب د. عبد القادر حجازي.. ومعانٍ على الطريق
جمال ماضي مع د. عبد القادر حجازي
بقلم: جمال ماضي
1- النبع الصافي
في ليلة عيد الفطر المبارك وفي يناير عام 37، استقبلت الدنيا هذا الطفل الوديع الذي أطلق عليه والده اسم \"عبد القادر\" تيمنًا بالشيخ عبد القادر الكيلانيº فقد كان والده من المتصوفة الذاكرين الله كثيرًاº حيث كان حريصًا على قيام الليل، وتربية ابنه على النوم مبكرًا والمداومة على صلاة الفجر، أما والدته فكان عمها الأستاذ محمود عبده، المجاهد الذي أخرج المجاهدين في حرب فلسطين عام 48.
وانطلاقًا من هذا النبع الصافي تبدأ رحلة إنسان جديد في الحياة، ومعها الكثير من المعاني والمفاهيم التي كان يحرص عليها الدكتور عبد القادر فكان له تاريخ في الإخوان المسلمين، وتاريخ في العمل التطوعي، وتاريخ في العمل الإنساني، وتاريخ في العمل المهني كجراح مشهور.
2- وبدأت الرحلة..
تبدأ رحلة المجاهد من أجا الدقهليةº حيث أتم المدرسة الإلزامية ثم الثانوية، ويسمع الشاب عن حضور فضيلة المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين الأستاذ حسن الهضيبي، في مضيفة أجا أواخر عام 1951م، فيذهب مع الذاهبين للاستماع إليه، وكأنه كان على موعد مع دعوة الإخوان، وهو يرد ذلك إلى أقدار الله الجميلة، فقد كان معلمه آنذاك الأستاذ عراقيº الذي رآه يومًا في صحبة الشباب يتريَّضون كعادتهم على المنصورية في أجا بعد صلاة العصر، فناداه من بين أصحابه، ثم دعاه إلى الشعبة، ومن ساعتها وقد انتظم في أنشطة الطلاب، وهكذا بدأت الرحلة من احترام لمعلمه وتوقيره والاستجابة لطلبه، بل ظل وفيًّا لأستاذه حتى اللحظات الأخيرة في مرضه بمستشفى الأمل الخاص به.
كما تبدأ الرحلة بقراءاته التي لم تكن بعيدةً عن الإسلام، فكانت أولى هذه القراءات للشيخ محمد عبده، التي وجد فيها بُعدًا شاملاً عن الإسلام، ولذلك كان أول معنى حققه بالفعل هذا الشاب ثم نصح به الشباب: \"أن يعايش الشاب أهله، ويعلمون منه حكايته ويرضون عنه، ليسير في هذه الدعوة\".
ومن هنا حدث انسجام تام مع الأسرة، فقد كان مرة يساعد أباه في جني القطن، وإذا بقادم يخبره بأن مسئوله يطلبه، فما كان من الوالد إلا أن حثَّه على الذهاب رغم مشاركته له في العمل، وببركة هذا المعنى العملي الذي أطلق عليه مجاهدنا: \"معايشة الأهل مع دعوتك\".
3- أولى روضة
من عام 52 وحتى محنة 54 استوعب الشاب رسائل الإمام البنا جيدًا، ومع شدة ميله إلى الناحية العملية التي عرفت عنه منذ الصغرº حيث كان شعاره: (نحن قوم عمليون)، فقد اعتبر أن كل ذلك كان (أولى روضة)، معتبرًا أن الالتحاق العملي والحقيقي بجماعة الإخوان قد بدأ مع السجن الحربي من لحظة اعتقاله وهو ضابط احتياطي في محنة 64.
وكانت نقطة التحول عندما وقف بين يدي شمس بدران، فرأى الظلم بعينيه، وظل التعذيب يمارس عليه من الساعة 9 ص إلى ما بعد الظهرº حيث كانت لحظة الخروج من أولى روضة تصنع، والتي بدأت باتهامه بسيل من الاتهامات الذي استوقفه منها اتهامه بقتل عبد الناصر!، فكان رده الفعلي: أنا لا أستطيع قتل فرخة!!، وعند الظهر قدموا له طبق العدس المشهور بالسوس المتين، ولم يكن قد ذاق الطعام منذ لحظة اعتقاله، ومع ذلك يقول: \"استطعمت العدس\"، \"جعلوني من الإخوان\"، ثم يشرح المعنى: \"حرم الله الظلم، وانتهاك الحرمات أظلم الظلم، لقد كانوا يقولون لنا: لا أحد منكم سيخرج من هنا، وكنت أقول لإخواني: سيأتي الفرج، بل زاد عمقي أن الإخوان على حق\" وهكذا كانت هذه الفترة كما أطلق عليها: (مدرسة الحربي)، وكانت التهمة الموجهة إليه: أنه طبيب التنظيم!.
4- معانٍ على الطريق:
معنى: الثبات
وقدر الله أن يزامله في السجن صلاح شادي، الذي كلما تذكره بكى بكاءً يجبرك على البكاء، خاصة حينما تنطلق مشاعره وهو يصور لك المشهد المحفور في وجدانه، وهو يتعلم معنى الثبات فيقول عن صلاح شادي: (أتذكره بعد صلاة الفجر وهو يقرأ المأثورات مطمئنًا ثابتًا، لقد تعلمت منه الكثير).
معنى: الإيثار
وهكذا تنطلق المعاني على الطريق في صياغة شخصية فذة، قدر الله أن تصنع على عينه، على يد أساتذة الجهاد والدعوة، فمن صلاح شادي إلى معروف الحضري، الذي تعلم منه معنى (الإيثار)، حيث كان يساعده في توزيع البرتقال خلسة على الزنازين، مما كان يعرضه للإيذاء والعقاب اللفظي والبدني أكثر من مرة، ومن هنا كان يقول مجاهدنا قولته المشهورة: (القراءة عن الإخوان غير المعايشة مع الإخوان في المحن).
معنى: لا دوام للظلم
وعندما بدأت دورات غسيل المخ، بدأ معها لدى الدكتور عبد القادر معنى جديد، فعندما أفلسوا في تحقيق هدفهم، هددوا بتنفيذ حكم الإعدام في اثنين من الإخوان المحكوم عليهما بالإعدام، وحددوا لذلك يوم 5 يونيو، وفي صبيحة يوم 5 يونيو فوجئ الإخوان بغلق الزنازين، وسمحوا لثلاثة فقط، منهم عبد القادر حجازي في الساعة التاسعة صباحًا بالنزول إلى الحوش لكنسه وتنظيفه، وكان القدر في نفس ساعة النزول أن تكون غارة الطائرات على القاهرة، فأسرعوا بإدخالهم إلى الزنازين، ونقل الخبر إلى الإخوان، فكان المعنى (لا دوام للظلم)، يقول واصفًا هذا المعنى العميق: (فكانت هزيمة 5 يونيو التي كنا لا نتمناها، فالإسلام يرسّöخ فينا حب الوطن، وهذا شيء من العقيدة، بل كان من المعنى الرباني في ذلك: أنهم لم ينفذوا حكم الإعدام أولاً، ثم ذهبنا إلى طره حيث بدأت لأول مرة الزيارات).
معنى: اختفاء الأمراض
ومن تهمة طبيب التنظيم! أصبح من الآن الدكتور عبد القادر هو بالفعل طبيب الإخوان!، ولكن كيف يمارس مهنته بلا دواء؟ ولكنه ابتكر دواءً جديداً ممثلاً في: (أكل قشر البطيخ – وأكل قشر البيض- وأكل قشر البرتقال)، والعجيب في ذلك أنه في هذه الفترة كما يقول: (لم يكن هناك حالات إسهال، ولا رشح، ولا مغص، والأمراض تكاد تكون قد اختفت).
ويحكي بنفسه القصة التي يتناقلها الإخوان وكان هو بطلها، يقول:(في أثناء الطابور شكا لي أحد الإخوان بأنه يعاني من مغص شديد، فأعطيته قرص إسبرين مهربًا قائلاً له: قسمه على مرتين أو ثلاثة ولا تزد عن ذلك، وأخذ الإسبرين وشفي بإذن الله) ثم يضيف (لقد قابلت هذا الأخ بعد خروجنا في الحرم، وقال لي: ما زلت أعاني من المغص على فترات، هلا أعطيتني اسم هذا الدواء الذي شفي الله به المغص؟ قلت له: (قرص الإسبرين!).
معنى: الأخوَّة
أصيب الدكتور عبد القادر بالسكري مع قصور في الدورة التاجية، ومرض مرضًا شديدًا، وكان يسكن بجواره في الغرفة الحاج أحمد حسنين عليه رحمة الله، وهو صندوق للمشاعر، وكتلة من الإحساس، الزاهد في الدنيا، المقبل دائمًا على إخوانه، يحكي الدكتور متأثرًا جدًّا بمواقف الحاج ومآثره قائلاً: \"كان يقوم بإعداد وتحضير اللحم وتسويتها، وكان يسهر على راحتي، مما ترك أثرًا بالغًا في مشاعري\" ومن فرط تأثره وهو يحدثك عن الحاج أحمد حسنين، تشعر وكأنه يحدثك عن صحابي أو تابعي من التاريخ يعيش بيننا!.
5- اللحظات الأخيرة لمرشدي جماعة الإخوان كما يرويها مجاهدنا:
أولاً: الأستاذ عمر التلمساني
في مستشفى الأملº حيث استقبلت الأستاذ عمر التلمساني في مرضه الأخير، كانت فرصة ليكون حديث المستشفى ذكريات الدكتور مع التلمساني:
1 – في عام 81 كنت في السعودية، وحملت رسالة من أحد الإخوان \"فلان يقول\": إلى متى نُضرب ويُعتدَى علينا؟ فقال لي: يا أخ عبد القادر: \"ظفر الإخوان عندي أغلى من الدنيا وما فيها\"، فأدرك الدكتور المعنى قائلاً: \"وصلت الرسالة\".
2- في مكة المكرمة كنت في أفغانستان ثم عدت إلى مكة للالتقاء بالأستاذ عمر في عمرته، ونُعلمه الوضع في أفغانستان، ولكنه أصيب بمرض، فذهبنا إليه في الفندق، وهو في هذه الظروف المرضية اعتدل، وفوجئنا به ينصحنا وينصح المجاهدين.
3- حدث خلاف بيني وبين أخ، وكنت حريصًا على إنهائه، ووصل الأمر للأستاذ عمر عن رغبة الأستاذ مأمون في الصلح بيننا، ولكن الأستاذ عمر قال له: لا يا مأمون!! أنت لك موقع ودعوة، في ابتسامته المشرقة.
4- كان ابن الأستاذ عمر يعيش في جدة وكان ثريًّا، وعندما سئل لماذا لا تأخذ من مال ابنك؟ قال: \"أنا أعيش على جيوب إخواني ولا أخذ من ابني مليمًا\".
ثانيًا: الأستاذ حامد أبو النصر
كان يستقبله الدكتور بمستشفى الأمل، وفوجئ بعد خروجه مرة برسالة بخط يد الأستاذ حامد أبو النصر، رسالة شكر وتقدير موقّعة باسمه، يذكّر فيها الدكتور بالاهتمام بالمرضى، وخصوصًا المرضى الأقباط، وقد أرانا إياها الدكتور، وهو يقول لنا بتأثر: كان كلما يلقاني الأستاذ حامد أبو النصر يقول لي: \"أنت أخ عملي من العمليين\"، فكانت أعظم من كل ما حصل عليه الدكتور من شهادات تقدير تملأ مكتبه، سواء بالبيت أو بالمستشفى!، وكانت آخر رسالة تركها للدكتور، تحمل نفس المعاني، قبل وفاته بنفس المستشفى.
ثالثًا: الأستاذ مصطفى مشهور
كان من قدر الله أن يكون قبل وفاته بيوم في مستشفى الأمل مع الدكتور عبد القادر، ثم ذهب إلى منزله، لتكون وفاته في المكان الذي حدَّده الله، ولم ينسَ الدكتور موقفًا مع الأستاذ مصطفى مشهور، عندما فوجئ باتصال تليفوني منه وهو مرشد، يبلغه بوفاة أخ وميعاد جنازته، فأدرك معنى الأخوَّة بهذا الحرصº لعله يدعو له ويسامحه.
6- قصة برواز
1- في مكتبه بمستشفى الأمل تجد على اليمين بروازًا وقد ظهرت عليه علامات السنين، ومكتوب فيه: \"التزموا كريم الخلق في أنفسكم أولاً يَصلح الناس معكم\"، فسألته عن قصة هذا البرواز فقال: هذا قول للأستاذ الهضيبي عندما التقى عبد الناصر، وسأله الأستاذ: \"يا جمال اتفقتم مع الإخوان على إيه؟\" فتنكَّر من كل الاتفاقات، قائلاً: \"لم نتفق على شيء\"، فقال صلاح شادي حاكيًا الاتفاق على تحكيم شرع الله عندما تستقر الأمور، وعندها سأله عبد الناصر: بم تنصحنا؟ فقال الهضيبي هذه الحكمة، فرأيتها حكمةً للناس كلهم، وليس للمسلمين فقطº لأن دعوة الإسلام دعوة عامة.
2- وسألناه عن قصة برواز آخر مكتوب عليه الآية القرآنية: (واغضض من صوتك.. إن أنكر الأصوات لصوت الحمير) فقال على الفور بعفوية: لقد كان صوتي عاليًا حتى في السجن، فأردت أن أهذّöب نفسي بالتذكير بهذه الآية، ولعل هذا هو سر الصوت الناعم الهادئ الذي كان يشتهر به الدكتور!.
3- أما علَم فلسطين وبرواز \"القدس لنا\" والغترة الفلسطينية، فلا تسألº لأنه يقوم بإهدائها لكل زائر له، سواء في مكتبه أو منزله، وكان لي نصيب من ذلك.
7- وأخيرًا.. وبقي الأمل
- الحلم كيف حققته؟ سألناه فأجاب: بفضل الله علينا وفضل هذه الدعوة.
- كيف يحقق الطبيب حلمه؟ سألناه فأجاب: بالتعايش مع أقدار الله لا ضدها، فعند خروجي من السجن شاء الله أن أذهب إلى السعودية بعد الزواج، ومن واقع عملي وواقعي أقول: سلوك الطبيب يتلخَّص في: الحرص على المريض، وإتقان العمل، والصدق في الأداء، والمعاملة الطيبة مع كل المرضى، وابتغاء وجه الله تعالى في كل ممارساته، فالإمام البنا يقول: (نحن قوم عمليون).
- سألناه عن حلم العودة إلى مصر؟ فقال: \"حياتي كلها أن أعود إلى مصر، وأن أعمل في عمل إنساني تطوعي خيري\"، فكتب الله أن يكون كذلك، رئيسًا للجنة الإغاثة بنقابة أطباء مصر، لعدة سنوات، زار خلالها بالصور التي رأيناها ومشاهد الفيديو، البلدان المنكوبة، وقدَّم المساعدة لضحايا الكوارث على المستوى الإنساني العالمي.
- سألناه عن نصيحته للشباب؟ فقال: تقدمت إلى زوجتي بدبلة فضة لي ودبلة ذهب لزوجتي فقط، لذلك أقول لشبابنا: لا صعود إلى السماء مباشرةً ولكن بالتدريج، وتعايشوا مع قدر الله فكله جميل، بدأت بشقة مع زوجتي الدكتورة، وكانت عيادة وشقة للسكن في ذات الوقت، وكان القدر أخيرًا: أسكن في الدور الثامن فوق مستشفى الأمل الذي صار بفضل الله صرحًا، بدأت بسبعة أسرَّة وانتهت إلى أربعين سريرًا بعد التوسعة.
- سألناه هل من كلمة أخيرة؟ فقال: الحياة كلها من فضل الإسلام علينا، ومن التربية التي أخذناها في فترة السجن.