جولة في الأموي
تعالوا، أولاً، نلم بالمسجد كله بنظرة واحدة، أكون أنا فيها دليلكم، أصفه لكم بإجمال وإيجاز، ثم أعود في الفصول التالية، فأفصّل ما أجملته، وأسهب فيما أوجزته.
السور والدهاليز:
نحن الآن في باب البريد، أترون هذه القنطرة وهذه الأعمدة الكبار؟ هذه بقايا أعمدة السور الخارجي للمعبد، والكتابات التي تبدو عليها كتابات محدثة من عهد المماليك. أما قناطر السور الداخلي، فترون بقايا ركائزها لاصقات بالجدران على طرفي باب المسجد. وكان لكل باب من الأبواب الأربعة دهليز، وأعظمها دهليز الباب الشرقي، ثم الباب الغربي (وهو هذا)، ثم الباب الشمالي، ولا تزال آثار ذلك كله واضحة، ولا تزال بقايا أعمدة الدهليز الشرقي وأعمدته الكبار مائلة قد غطّتها الدكاكين. وقد بقيت هذه الدهاليز إلى القرن السادس، وترون وصفها فيما كتبه ابن جبير وأثبتناه في آخر هذا البحث.
مداخل الأموي:
وهذه الدكاكين التي تشوّه منظر الجامع في السوق الضيّق من هنا، وفي القباقبية من هناك، كان الأمراء يمنعون أمثالها حرمة للأموي، وقد صدر الأمر سنة 647 هِ بهدمها كلها. وكانت عنايتهم بمداخل الأموي وما حوله كعنايتهم به نفسه، ففي سنة 610 أمر الملك العادل بوضع سلاسل في أيام الجُمع على الطريق المؤدية إلى الجامع كيلا تصل الدواب إليه، كالسلسلة الممدودة الآن على مدخل سوق الحميدية، في موضع باب النصر الذي كان أحد أبواب دمشق. وفي سنة 663 بلّط الطريق من باب الجامع إلى القناة التي كانت عند درجات المسكية التي أُزيلت من أكثر من خمسين سنة ونحن نعرفها، وعُمل إلى جانبها القبلي بركة واشذروان (الشاذروان معناه عندهم لسان من البناء يتدفق منه الماء أو نحو ذلك، ولا يزال يُستعمل بهذا المعنى في الحجاز. والكلمة فارسية الأصل)، وغُطّيت الساقية التي كانت هناك، وجُعل للبركة أنابيب يجري فيها الماء إلى الجهة المقابلة، وسُحب ماؤها من نهر قنوات لينتفع بها الناس عند انقطاع ماء نهر نابلس (بانياس). ولقد خبّرني ناظر الجامع الشيخ حمدي الحلبي أن تلك الساقية لا تزال موجودة ولكنها مغطّاة وهي تمرّ تحت بيت الخطابة.
النوفرة:
وكان من عنايتهم بتجميل مداخل الأموي، أن أُقيمت الفوّارة (النوفرة) أسفل درج المسجد عند باب جيرون. وقد أنشئت سنة 416 وجُرّ إليها الماء من نهر قنوات ظاهر قصر حجاج (نسبة للحجاج بن الوليد بن عبد الملك)، فوصل إليها الماء ليلة الجمعة 7 ربيع الأول 417، وكان القائم بإنشائها القاضي حمزة الحسيني ناظر الجامع. وسقطت سنة 457 من جöمال احتكّت بها فأُعيد إنشاؤها. ثم سقطت عمدُها وما عليها في حريق اللبادين (النوفرة) وباب الساعات في سنة 516، وكان حريقاً عظيماً. وأعيد بناؤها. وفي سنة 514 أُقيم عليها شاذروان. وفي سنة 607 تخرّبت فأصلحت، وجُدّد الشاذروان والبركة، وبُني أمامها المسجد وجُعل له إمام راتب. وفي سنة 814 بيض شاذروان الفوارة، وأُعيد جريُ الماء فيها بعدما انقطع أمداً.
أبواب الأموي:
وللمسجد ستة أبواب:
هذا الباب الذي تقف عليه الآن وهو باب البريد، وهو كما ترون ثلاثة أبواب، باب كبير في الوسط، وبابان على جنبيه، وكان ثاني البابين الرئيسين للمعبد.
أما الباب الرئيسي الأول فهو باب جيرون المقابل له، وعُرف بعد القرن الخامس بباب الساعات وباب اللبادين، وهو مثله في ثلاثة أبواب ويسمى الآن باب النوفرة، وقوسه لا يزال كما كان من القديم. وقد بقي باب المعبد الأصلي وهو من خشب الصنوبر البالغ المتانة، وكان مصفحاً بالنحاس، له مامير كبار بارزة إلى حريق سنة 753 فتشوّه وأثّر فيه الحريق فنقل إلى خزانة الحاصل (إي إلى المستودع) ثم فُقد. وقَدّر المؤرخون عمر هذا الباب حين الحريق بأكثر من ألف سنة.
ثم الباب المسدود الآن وهو وراء المحراب وله باب كبير في الوسط وصغيران على الجانبين وكان يدخل معاوية والخلفاء من الأوسط، فلما بنى الوليد وأزال الكنيسة صار الخلفاء يدخلون من الباب الأصغر على يسار المحراب.
والباب القبلي هو الذي كان يُعرف بباب الزيادة، وكان يسمى باب الساعات، ثم انتقل هذا الإسم إلى باب جيرون لأن الساعات نُقلت إليه، ويسمى الآن باب القوافين.
وباب الناطفانيين وهو باب الفراديس ويسمى الآن باب العمارة.
والباب المحدث إلى مدرسة الكلاسة.
وفي سنة 607 جُدّد باب البريد (أي الأبواب الثلاثة) وركّبت عليها صفائح النحاس الأصفر. وجدّده الملك الظاهر كذلك سنة 673. وفي سنة 719 حلّيت الأبواب وحسّنت، كان قد سُدّ البابان الصغيران من الباب الشرقي (باب جيرون) بعد حادثة تيمورلنك، وبُنيت دكاكين في رحبة الجامع فهُدّمت أول سنة 820، ورُكّب البابان الصغيران الغربيان سنة 819، والبابان الشرقيان سنة 820، وقد جُدّدت صفائح النحاس على الأبواب حديثاً.
خلع النعال:
ولنخلع الآن النعال ولندخل. وكان الدخول إلى المساجد في أول الإسلام بالنعال، لأن الأرض في الحجاز جافة والمساجد غير مفروشة، وكذلك كان يُدخل إلى صحن الأموي، كما يظهر، وفي ربيع الآن سنة 827 فُوّض النظر على الجامع إلى إمامه الحنفي، وهو رجل مصري يقال له تقي الدين العمادي، فألزم الناس ألا يمشوا في الصحن إلا حفاة، فشقّ ذلك عليهم، ولكنه أصرّ وعمل على الأبواب درابزينات وحواجز لخلع النعال وبقي ذلك إلى شوال من تلك السنة، ثم عُزل العمادي، وعاد الناس إلى ما كانوا عليه. وفي سنة 722 لما جُدّد المسجد بعد حادثة التتار، منع ناظر الجامع ابن المرحل (وهو محد بن عمر العثماني) الدخول بالنعال، بأمر نائب الشام تنكز. وفي شعبان سنة 816 سُمح بالمشي فيه بالنعال، ثم مُنع ذلك في وقت من الأوقات، واستمر المنع إلى الآن.
***