في الحرم
فلندخل الآن إلى الحرم. إن هذه الأبواب المتصلة المفضية إلى الحرم، لم يكن لها في الأصل في الأصل مصاريع، وإنما كانت عليها الستر إلى حريق سنة 461. فإذا دخلنا، وجدنا إلى اليسار مشهد أبي بكر، المعروف الآن بمشهد السفرجلاني، ثم مدخل المنارة الشرقية، ثم المحراب المالكي، وهو المحراب الأصلي للمسجد قبل أن يبنيه الوليد، وكان يسمى محراب الصحابة، وأنشئ المحراب الكبير عند عمارة الوليد وجُعل للخطيب. في سنة 617 نُصب محراب الحنابلة بالرواق الثالث الغربي (قرب البئر) أي وراء الصف الثالث من الأعمدة، وقد عارض في نصبه بعضُ الناس، ولكن ركن الدين المعظمي قام بنصرة الحنابلة، وصلى فيه الموفق ابن قدامة المقدسي، ثم رفع في حدود سنة 730، وعوّضوا عنه بالمحراب الغربي عند باب الزيادة، وهو باقٍ إلى اليوم. وعمل محراب الشافعي الآن سنة 728 بأمر تنكز، وخص بالحنفية، وصارت المحاريب أربعة: محراب الخطيب، ومحراب الحنفي (وهو الشافعي الآن)، والمالكي، والحنبلي. وكانوا قبل سنة 694 يصلون في وقت واحد، ثم رُسم للحنابلة أن يصلوا قبل الإمام الكبير، وفي سنة 819 انتقل الإمام الأول من محراب المالكية إلى محراب الحنفية (وهو الشافعي الآن). ثم استقرت الحال على أن أول من يصلي إمام الكلاسة، ثم إمام مشهد الحسين، ثم الشافعي، ثم المالكي، ثم الحنبلي، ثم إمام مشهد أبي بكر، ثم إمام مشهد عروة، ثم إمام مشهد عثمان. ثم اقتصر الأمر على أئمة المسجد الأربعة. والعمل على ذلك إلى الآن بهذا الترتيب، أي الشافعي فالحنفي فالمالكي فالحنبلي
القبر:
أما القبر فقد نقل ابن عساكر أنهم رأوا عند عمارة المسجد مغارة، فخبروا بها الوليد، فنزل إليها والشموع بين يديه فوجد كنيسة صغيرة، ثلاثة أذرع في ثلاثة أذرع، فيها صندوق فيه سفط (قفّة) فيه رأس، سليم الجلدة والشعر، مكتوب عليه أنه رأس يحيى بن زكريا، فأمر بتركه على حاله، وجعل للعمود القائم على المغارة علامة تميّزه، وبقي كذلك فترة ثم وُضع فوقه تابوت عليه اسم يحيى، رآه ووصفه (كما سيأتي) ابن جبير في أواخر القرن السادس الهجري، وبقي ذلك إلى تاريخ رحلة ابن بطوطة، ثم أقيمت هذه القبة في وقت لم أقف على تحديده إلى الآن. ولم يتخذ الوليد عليه قبراً، لأنه لم يثبت عنده أن الرأس ليحيى، ولأن إقامة القبور في المساجد أو بناء المساجد عليها ممنوع في الإسلام، والرسول صلى الله عليه وسلم حذّر منه ولعن فاعله، وكان ذلك من آخر ما نطق به صلى الله عليه وسلم قبل وفاته. ولا يُحتج لجواز اتخاذ القبور مساجد بقبره صلى الله عليه وسلم، فإن قبره لم يكن في المسجد، بل كان في داره، فلما دخلت الدار في المسجد عند التوسعة، صار فيه. وقد نص الحنفية أن من آداب زيارة قبره صلى الله عليه وسلم ألا يستقبل الزائر القبر بل يقف بحذاء رأسه الشريف ويصلي عليه ويدعو له، وهو مستقبل القبلة. مع أن الثابت من تاريخ سيدنا يحيى بن زكريا عليهما السلام، وهو الذي يسميه النصارى (يوحنا المعمدان) أنه كان على عهد المسيح عليه السلام، وأن الإمبراطور الروماني أمر بقتله وسلّم رأسه إلى (تلك) الراقصة الفاجرة، فعَبَثت به ولم يُعلم مصيره، فهو قد قُتل في الأردن، قبل عمارة الأموي بنحو ستمئة سنة، فمن أين وصل الرأس إلى هذه المغارة؟ وكيف قطع هذه المسافة على الأرض، وهذه المسافة في الزمان، ثم استقر سليماً في هذا السفط؟. أما تسمية الكنيسة بمار يوحنا فلا يدل على شيء، لأن عند المسيحيين أكثر من عشرين كنيسة، في كل منها قبر ليحيى عليه السلام. هذا وعندهم أكثر من عشرين قديساً باسم (مار يوحنا). فمن قال بأن الاسم المقصود هنا هو ليوحنا المعمدان؟. وعلى فرض صحة الخبر الذي رواه ابن عساكر، فإنه لا يثبت إلا أنهم وجدوا رأساً عليه اسم يحيى لا يُعرف من كتبه ولا تاريخ كتابته، وليس لدينا أي دليل على أن هذا القبر هو ليحيى، وليس لدينا دليل كذلك على نفي أن فيه رأس يحيى عليه السلام. فالله أعلم بحقيقة الحال. ووراء المحراب والمنبر، الباب الذي سُدّ من قديم، ويبدو أعلاه الآن للمار من القباقبية، ظاهراً من وراء الدكاكين.
وكان يعد المنبر مقصورة الخطابة، ثم بيت الخطابة، وهي موجودة، ثم محراب الشافعي، ثم باب الزيادة، ثم محراب الحنبلي في موضع المقصورة المسماة بمقصورة الخضر، ثم قاعة الحنابلة، ثم المئذنة الغربية، ثم مشهد عروة (أو ابن عروة) على جانب باب البريد الأيمن للداخل.
***