عمارة الأموي
عمارة المسجد من هدي الأنبياء وسنن المؤمنين، وقد بنى إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام الكعبة، البيت الحرام، وكان أول ما صنعه الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة، هو ببناء مسجد المدينة. وإن كانت عمارة المساجد بالعبادة والعلم والإيمان مقدّمة على تثبيت الأركان، وتعلية الجدران، والإكثار من الزخارف والألوان، بل إن زخرفة المساجد والزيادة في عمارتها على حد الضرورة مما كرهه الإسلام ورغب عنه السلف الصالح. وقد نص الحنفية على أن الكتابة على جدرانها، ولا سيما في القبلة، لا تستحسن. وكان هذا المسجد في الأصل معبداً وثنياً، فأخذه النصارى فصيّروه كنيسة، فلما كان الفتح الإسلامي ودخل خالد عنوة من جهة الباب الشرقي، ودخل أبو عبيدة صلحاً من جهة باب الجابية، تم الاتفاق على أن تقسم الكنيسة قسمين، ما كان منها في الأرض التي وصل إليها أبو عبيدة صلحاً بقيت كنيسة، وما كان منها فيما فُتح عنوة صار مسجداً. وكانت هذه قوانين الحرب المتعارفة، وكان للظافر أن يمتلك المرافق العامة فيما فتحه بالسيف، وبذلك القانون أخذ النصارى هذا المعبد الوثني من قَبلُ وصيّروه كنيسة. وكان المسجد في أقل من نصف مساحته الآن (أي من باب النوفرة إلى ما قبل القبة)، وكان له محراب واحد هو محراب المالكية اليوم. واستمرت الحال على ذلك إلى أيام الوليد، فكان النصارى يصلون فيؤذّن المسلمون فيزعجونهم، ويصلي المسلمون فيضرب النصارى النواقيس. وضاق المسجد بأهله، وأراد الوليد أن يضم الكنيسة إلى المسجد، وكان الوليد هو الحاكم المطلق في نحو عشرين دولة من دول اليوم، هي: الجمهورية العربية المتحدة والعراق والأردن وفلسطين والحجاز واليمن وتركيا وليبيا وتونس ومراكش والجزائر وإسبانيا والحبشة وإيران والأفغان وجمهوريات أرمينية وبخاري وتركستان وقسم من باكستان. ولكنه كان مع هذا السلطان مقيداً بقيد القرآن، والقرآن والسنة يحرّمان ظلم المواطن الذمي، أي المواطن المسيحي بعرف الناس اليوم، ولا يجوز التعدّي عليه ما لم ينقض هوالعهد، لذلك لم يقدر أن يُصدر أمراً بأخذ الكنيسة جبراً، فدعا رؤوس النصارى وعرض عليهم أن يعطوه بقية الكنيسة ويبني لهم بدلاً منها كنيسةً أعظم منها، فأبوا، فعرض عليهم أن يبني لهم أربع كنائس ويعطيهم مبالغ ضخمة من المال، فأبوا وقالوا: إننا نتمسك بالعهد الذي كان بيننا وبينكم. فقال لهم: أنتم خالفتم العهد وأحدثتم كنائس جديدة لم يكن في المعاهدة بناؤها فأنا أهدمها. وعزم على ذلك، ودخل عليه أخوه المغيرة فوجده مهموماً فقال: مالك يا أمير المؤمنين؟. فخبره، فقال: أخرج العهد فأنظره. فأخرجه فنظر فيه، فإذا القسم المفتوح عنوة، يمتد إلى آخر الكنيسة وبذلك تكون كلها حقاً للمسلمين، فألف لجنة مشتركة (إسلامية ونصرانية) فقامت بمسح ذلك، فظهر بالمساحة أن الكنيسة كلها من حق المسلمين، وأنها تدخل المسجد. فقالوا: يا أمير المؤمنين، كنت أقطعتنا أربع كنائس، وعرضت علينا من المال كذا وكذا، فإن رأيتي أن تتفضل به علينا. فامتنع أولاً، ثم أعطاهم الكنائس الأربع، وبنى لهم كنيسة مار يوحنا الكبرى. أي إن الدولة الإسلامية، في أقوى عصورها، تبني للنصارى الكنائس من مالها، ثم يتذرع المستعمرون بالخوف على النصارى في بلادنا من حكم الإسلام!.. وقالوا: إن من يهدم الكنيسة يجنّ. فأخذ الوليد المعول وقال: أنا أحب أن أجن في سبيل الله، وضرب به وتبعه الناس، ثم دعوا باليهود فأكملوا هدمها، ولم يبق في المسجد من الكنيسة إلا الجدران وأساس الصومعتين الأماميتين. على أن صاحب "معجم البلدان" يروي أنه نقض الحيطان وأعاد بناءها على أساس جديد حفر له حتى بلغ الماء. وسمع إمبراطور القسطنطينية بذلك، فأراد أن يصرفه عن عمارة المسجد، فكتب إليه: إن كان هدم الكنيسة حقاً وصلاحاً، ولم يفعله أبوك، إنه لوصمة عليك. ولما ورد الكتاب على الوليد، قعد يفكّر في جوابه، فدخل عليه الفرزدق الشاعر فقال له: جوابه حاضر، وهو قوله تعالى: {ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكماً وعلماً}.
***
وحشد لبنائه العمال من كل مكان وأراد أن يقيم السقف على أسطوانات (أعمدة)، فاقترح عليه بنّاء شامي أن يقصر الأعمدة، ويعقد بعضها بأقواس، ويقيم فوقها أعمدة صغاراً، لها قناطر تحمل السقف، فصنع ذلك وبقي إلى يومنا هذا.
هندسة الأموي:
وكانت هندسته مبتكرة، شهد بذلك كل من رآه من قديم وحديث من المسلمين وغير المسلمين. من ذلك أن المهدي لما قدم الشام في طريقه إلى بيت المقدس، دخل مسجد دمشق، ومعه كاتبه أبو عبيد الله الأشعري، فقال له: يا أبا عبيد الله، سبقنا بنو أمية بثلاث.
قال: وما هن يا أمير المؤمنين؟.
قال: هذا البيت (يعني المسجد)، ونبل الموالي، فإن لهم موالي ليس لنا مثلهم، وعمر بن عبد العزيز لا يكون فينا مثله أبداً.
ولما وصل إلى بيت المقدس ورأى قبة الصخرة، قال: يا أبا عبيد الله، وهذه رابعة. ولما دخل المأمون مسجد دمشق، ومعه المعتصم ويحيى بن أكثم، قال لهما:
- ما أعجب ما في هذا المسجد؟.
- قال المعتصم: ذهبه وبقاؤه فإنا نجعله في قصورنا فلا تمضي عليه العشرون سنة حتى يتغير.
- قا: ما ذاك الذي أعجبني فيه.
- قال يحيى: تأليف رخامه، فإني رأيت شيئاً ما رأيت مثله.
- قال: ما ذاك الذي أعجبني فيه.
- قالا: وما الذي أعجبك؟.
- قال: بنيانه على غير مثال متقدم.
ووصفه أحد الكُتّاب، وكان قدم دمشق سنة 432 هِ، بأنه بكر الدهر، ونادرة الوقت، وأن أمية أبقت به ذكراً لا ينقطع. وقال صديقنا الدكتور صلاح المنجد بأن المستشرقين العارفين بالآثار مُقöرّون بأن تخطيط المسجد وهندسته شيء مبتكر، لا يشبه هندسة الكنائس البيزنطية، وأن كثيراً منها يخرج عن طريقة العمارة السورية النصرانية المتوارثة.
بناء القبة:
ولما أُقيم هيكل البناء عمد الوليد إلى رفع القبة، وأرادها سامقة باسقة، فلما تمت سقطت، فشق ذلك على الوليد فجاءه بنّاء شامي، فقال: أنا أرفعها بشرط. قال: وما هو؟ قال: أن تُعطوني عهد الله ألا يمد أحد غيري يده إلى بنائها. قال: لك ذلك. فحفر حتى بلغ الماء. ثم وضع الأساس وغطاه بالحصر، واختفى، وطلبوه سنة كاملة فلم يصلوا إليه، فلما كان بعد السنة جاء، فقال له الوليد: ما دعاك إلى ما صنعت؟ فقال: تخرج معي حتى أُريك. فخرج والناس معه، حتى كشف الحصر، فوجد البنيان قد انحط ونزل قليلاً. وقال: من هنا كان سقوطها، فابنö الآن فإنها لا تهوي إن شاء الله. وبنى واستقرت القبة.
هدية اليهودية:
وعزم على أن يغطي القبة بالذهب، فنهاه العقلاء وأرَوْه أن ذلك يستفرغ خزائن من المال، ولا ينفع شيئاً فأمر أن تُغطّى بالرصاص. وجمع الرصاص من كل مكان، وبقيت قطعة من السقف لم يجدوا لها رصاصاً إلا عند امرأة أبيت أن تبيعه إلا بوزنه ذهباً، فكتب بذلك العاملُ إلى الوليد، فقال له: اشتره منها بوزنه ذهباً، فلما قال لها ذلك قالت: هو هدية مني إلى المسجد. فقال لها: كيف ضئنتö به أولاً إلا بوزنه ذهباً ثم سمحت به هدية؟ قالت: أنا لا أريد الذهب ولكن أردتُ أن أختبر عدل الإسلام. قالوا: وكانت يهودية. فكُتب على صفحائه كلمة (الله).
الأروقة والفسيفساء:
فتم المسجد صحناً مكشوفاً، حوله ثلاثة صفوف من الأعمدة من غرب وشمال وشرق، وحَرَم مسقوف في وسطه رواق عالٍ من الشمال إلى الجنوب تتوّجه قبة النسر، وثلاثة أروقة من الشرق إلى الغرب، كانوا يسمّونها البلاطات وكلّه من المرمر، وقد أُسدت على أبواب الحرم وعلى الثلث الأدنى من جدرانه الستور المزدوجة، كما يكون اليوم في دور الموسرين المترفين، ولكنها من الديباج والوشي، وغُطّي باقي الجدار وجدران الصحن بالفسيفساء. والفسيفساء (والكلمة يونانية أصلها بسيفوسيس) فصوص صغيرة، تكون من الزجاج والحجر، ومن الرخام ومن الصدف، مختلفة الألوان والأشكال، فمنها المثلث والمربع والمستدير والمستطيل، ترصف على طبقة من الجص المصمغ أو نحوه، وربما صُنعت فصوصها من مواد مختلفة، تُخلط وتُطبخ على طريقة كانت معروفة، وربما حُلّيت بالذهب وغُطّيت بطبقة من الزجاج أو ما يشبهه. وقد توصلت وزارة أوقاف الشام إلى صنع مثلها في هذه الأيام. وكانت أرض المسجد وجدرانه وسقوفه مغطاةً بهذه الفصوص المذهبة، التي جمعت صور بلاد الدنيا (كما قال المؤرخون)، فما يريد المرء إقليماً إلا وجده في الجامع، مصوّراً كهيئته، فيراه من غير أن يتعب بالسفر إليه وصّور كل شجرة، مثمرة وغير مثمرة، ومكة والكعبة فوق المحراب، وإلى جنبها صورة كرمة، حسبوا ما أُنفق عليها فقالوا: إنه بلغ سبعين ألف دينار. والله أعلم. ويظهر من خبر المأمون (وقد تقدم) أن هذه النقوش بقيت على رونقها وزينتها إلى عصره. وفي خبر أبي الليث الذي رواه ابن عساكر أنها بقيت إلى سنة 432 هِ، بل لقد بقيت على حالها إلى حريق سنة 461 كما نقل ابن كثير.
القناديل:
وعُلّق في المسجد قناديل البلور، في السلاسل المذهبة، وجُعل فيها المسك، فكان الناس إذا أُطفئت يأخذون بأنوفهم من ريح المسك، وكان فيها ثريا ثمينة نادرة تسمى (القليلة) فبقيت إلى أيام الأمين، وكان يحب البلور، فكتب إلى والي دمشق أن يوجّه بها إليه، فلما قُتل ردها المأمون إلى مكانها، وكانت في محراب الصحابة (محراب المالكي الآن)، ثم ذهبت فجعل مكانها برنية من زجاج، ثم انكسرت فلم يُجعل في مكانها شيء.
نفقات البناء:
وهال الناس ما أنفق الوليد على المسجد، وتكلّموا فيه، وكانت للشعب رقابة فعلية على الخليفة، وإن لم تكن يومئذ صحف ولا برلمان، وأتاه حاجبه وقال: يا أمير المؤمنين، إن الناس يتحدثون أنك أنفقت الأموال في غير حقها فنادى: "الصلاة جامعة". وكان هذا النداء بمثابة دعوة للناس إلى اجتماع شعبي طارئ، فاجتمعوا في المسجد، فقال لهم، لقد أبلغني حرسي أنكم تقولون: إن الوليد أنفق الأموال في غير حقها، ألا يا عمر بن مهاجر (وكان أمين الخزانة) قم فأحضر ما لديك من الأموال في بيت المال. فأتت البغال تدخل بالمال ويصب على الأقطاع، حتى إن من كان في جهة الشمال لم يُبصر مَن كان في جهة القبلة. قال: الموازين! فأتت الموازين، فوُزن المال وأحصي فوجدوا أن في بيت المال من المدّخر ما يقوم بنفقات الدولة سنين.
صفائح التاريخ:
وكُتب تاريخ المسجد على صفائح مذهبة فيها: "بسم الله الرحمن الرحيم. الله لا إله إلا هو الحي القيوم. لا تأخذه سنة ولا نوم. له ما في السموات وما في الأرض. منذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه. يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم. ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء. وسع كُرسيه السموات والأرض ولا يَؤوده حفظهما وهو العلي العظيم. لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، لا نعبد إلا إياه، ربنا الله وحده وديننا الإسلام ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم. أمر ببنيان هذا المسجد وهدم الكنيسة التي كانت فيه عبدالله الوليد أمير المؤمنين في ذي القعدة من سنة ست وثمانين".
النصارى والأموي:
ولما كانت خلافة عمر بن عبد العزيز، ورأى النصارى عدله وسيرته، وحكمه يرد مدينة سمرقند إلى أهلها لما جاؤوا ببيّنةٍ على أنها فُتحت غدراً، طمعوا في استرجاع الكنيسة، ورفعوا دعواهم إليه وأدلوا بالمعاهدة الى شرطت لهم ألا تهدم كنائسهم، ولا تسكن، فكلمهم وحاول إرضاءهم ودفع لهم مئة ألف دينار أي نحو مليوني درهم. فأبوا. فأمر بأن تُعاد إليهم الكنيسة. وكلف محمد بن سويد القهري بهذه المهمة فأكبر ذلك محمد وأكبره الناس، وقالوا: كيف تدفع إليهم مسجدنا بعدما صلينا فيه وقرأنا فيُهدم فيعاد كنيسة؟.
فقال رجل منهم: ارفعوا دعوى (مقابلة) إلى أمير المؤمنين، بأننا نتمسك بالمعاهدة، والمعاهدة تحمي كنائسهم التي كانت حين الفتح، ولكنها تمنعهم أن يُحدثوا غيرها، وقد أحدثوا بعد الفتح سبع كنائس ما لهم فيها حق، وعليهم بحكم المعاهدة أن يهدموها. فإن أحبّوا فإنا نعطيهم الكنيسة التي صارت مسجداً، ونهدم كل ما أحدثوا من كنائس، وإن شاؤوا تُركت لهم كل كنيسة أحدثوها، ونجعل للمعاهدة ملحقاً نعترف لهم بها، فاستمهلوا، ثم قبلوا بذلك، وتنازلوا عن دعواهم.
عمر وزخارف الأموي:
ثم نظر عمر إلى هذه الزينة وهذه الزخارف، فعزم على إبطالها، لأن كل ذلك مخالف لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم في بناء المساجد، والإسلام يكره زخرفة المساجد، والسرف في بنائها، لئلا تشغل المصلين بروعة بنائها عن مراقبة ربهم، وحسن التوجّه إليه، وكل ما نرى في المساجد الآن من الزخرف والفن والنقوش والتعالي في البنيان والتزيُّد من الفرش، كل ذلك مما رغب الإسلام عنه وكرهه، كما كره إقامة القبور فيها والكتابة على جدرانها. ثم إن عمر بن عبد العزيز قال: لقد هممت أن أعمد إلى تلك الفسيفساء وذلك الرخام فأقلعه، وأجعل مكانه طوباً، وأنزع تلك السلاسل وأجعل مكانها حبالاً، وأنزع تلك البطائن (أي الستائر) فأبيع جميع ذلك، وأدخله بيت المال، فبلغ ذلك أهل دمشق، فاشتد ذلك عليهم، فخرج إليه أشرافهم، وفيهم رجل يقال له خالدن فقال: ائذنوا لي حتى أكون أنا المتكلم. فأذنوا له. فلما أتوا دير سمعان استأذنوا على عمر، فأذن لهم، فلما دخلوا سلّموا عليه، فقال خالد: يا أمير المؤمنين بلغنا أنك هممت أن تفعل كذا وكذا في مسجدنا، فقال لهم: رأيت أموالاً أُنفقت في غير حقها وأنا مستدرك ما أدركت فأجعل قرارها في بيت المال، فقال له خالد: والله ما ذلك لك يا أمير المؤمنين. فقال له: لمن هو؟ ألأمك الكافرة؟ وغضب عمر، وكانت أمر خالد نصرانية. فقال له: إن تكن كافرة، فقد ولدت مؤمناً. فاستحيا عمر، وقال: صدقت. ثم قال: ما معنى قولك، ما ذلك لي؟ فقال: لأنا كنا معشر أهل الشام وإخواننا من أهل مصر وإخواننا من أهل العراق، نغزو فيُفرض على الرجل منا أن يحمل من أرض الروم قسماً من الفسيفساء، وذراعاً في ذراع من رخام، فيحمله أهل العراق وأهل حلب إلى حلب ويستأجرون من يحمله إلى دمشق، ويحمله أهل حمص إلى حمص ويستأجرون من يحمله إلى دمشق، ويحمل أهل دمشق ومن وراءهم حصتهم إلى دمشق. فذلك قولي، ما ذلك لك. فسكت عمر، ثم جاء كتاب من يزيد بن معمر يخبره أن قارباً ورد عليه من رومية في عشرة من الروم، عليهم رجل منهم، يريدون الوفود على أمير المؤمنين، فكتب إليه أن وجّههم إليّ، ووجّه معهم عشرة من المسلمين واجعل عليهم رجلاً منهم وليكن يحسن التكلم بالرومية ولكن لا يُعلموهم بأنهم يعرفون لغتهم. وذلك لأجل أن يحملوا كلامهم، ففعل ما أمره به وساروا حتى أتوا دمشق، فنزلوا خارج باب البريد، فسأل الروم رئيس العشرة من المسلمين أن يستأذن لهم الوالي في دخول المسجد، فأذن لهم فمروا في الصحن حتى دخلوا من الباب الذي يواجه القبة، فكان أول ما استقبلوه المنبر، ثم رفعوا رؤوسهم إلى القبة فخر رئيسهم مغشيّاً عليه، فحُمل إلى منزله فأقام ما شاء الله أن يقيم ثم أفاق فقالوا له بالرومية: ما قصتك؟ عهدنا بك من رومية وما أنكرنا منك شيئاً، وصحبتنا في طريقنا فما أنكرناك، فما الذي عرض لك حين دخلت هذا المسجد؟ فقال: إنا معشر أهل رومية نتحدت أن بقاء العرب قليل، فلما رأيت ما بنوا علمت أن لهم مدّة سيبقونها، فلذلك أصابني ما أصابني. فلما قدموا على عمر أخبروه بما سمعوا منه، فقال: لا أرى مسجد دمشق إلا غيظاً على الكفار فنزل عما كان همّ به من أمره.
***