المقدمّة الأولى: هل هناك إجماع حول الحكم الشرعي في هذه المسألة؟
يذكر كثير من الفقهاء إجماع العلماء أو إتفاقهم على أنّ الحساب لا يجوز إعتماده في إثبات الهلال، وانّ الرؤية وحدها هي الطريق الشرعي لإثبات دخول رمضان، فإن تعذّرت فإكمال العدّة.
- ذكر الصنعاني (قال الباجي في الرد على من قال: إنّه يجوز للحاسب والمنّجم وغيرهما الصوم والإفطار إعتماداً على النجوم، انّ إجماع السلف حجّة عليهم).
- ذكر إبن رشد: (إنّ العلماء أجمعوا على أنّ الشهر العربي يكون تسعاً وعشرين، ويكون ثلاثين، وعلى أن الإعتبار في تحديد شهر رمضان إنّما هو الرؤية... واختلفوا في الحكم إذا غمّ الشهر). ويفهم من ذلك أن العمل بالحساب في زمن الصحو يخالف الإجماع، وإنّ إختلاف الفقهاء حول جواز إعتماد الحساب محصور في حالة الغيم فقط.
- وهذا ما صرَّح به شيخ الإسلام إبن تيمية: (فإنّا نعلم بالإضطرار في دين الإسلام، انّ العمل في رؤية هلال الصوم أو الحج أو العدّة أو الإيلاء، أو غير ذلك بخبر الحاسب، انّه يرى أو لا يرى، لا يجوز...، وقد أجمع المسلمون عليه، ولا يعرف فيه خلاف قديم أصلاً، ولا خلاف حديث، إلاّ انّ بعض المتأخرين من المتفقّهة الحادثين بعد المائة الثالثة، زعموا أنّه إذا غمّ الهلال جاز للحاسب أن يعمل في حق نفسه بالحساب، وهذا القول وان كان مقيداً بالإغمام ومختصاً بالحاسب، فهو شاذ، مسبوق بالإجماع على خلافه، فأمّا إتباع ذلك في الصحو، أو تعليق عموم الحكم العام به، فما قاله مسلم).
- ذكر القرافي: (قال سند من أصحابنا: فلو كان الإمام يرى الحساب، فأثبت الهلال به،لم يُتَّبع لإجماع السلف على خلافه...).
في مقابل ذلك يذكر غيرهم الخلاف حول هذه المسألة، رغم تأكيدهم أن الجمهور لا يجيز إعتماد الحساب في إثبات هلال رمضان سواء في الصحو أو في الغيم. وأكثر فقهاء الحديث يذكرون هذا الخلاف عند تفسير قوله صلى الله عليه وسلم (فاقدروا له)، من الحديث الصحيح المشهور (لا تصوموا حتّى تروا الهلال، ولا تفطروا حتّى تروه، فإن غمَّ عليكم فاقدروا له)، (إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فافطروا، فإن غمّ عليكم فاقدروا له) ويذكرون أقوال مُطرّöف بن عبد الله الشّöخير من التابعين، وأبي العباس بن سريج من الشافعية، وابن قتيبة، أمّا فقهاء المذاهب فيبحثون مسألة (جواز إعتماد الحساب في إثبات الأهلّة) بشكل عام وليس فقط في حالة الغيم.
- يذكر إبن عابدين (انّ للمتأخرين ثلاثة أقوال نقلها الإمام الزاهدي في القنية:
الأول: ما قاله القاضي عبد الجبار وصاحب العلوم أنّه لا بأس بالإعتماد على قول المنجّمين.
الثاني: ما نقله عن إبن مقاتل، أنّه كان يسألهم ويعتمد على قولهم إذا إتفق عليه جماعة منهم.
الثالث: ما نقله عن شرح الإمام السرخسي أنّ الرجوع إلى قولهم عند الإشتباه بعيد، لحديث (من أتى كاهناً)، ونقل أيضاً قول شمس الأئمة الحلواني ومجد الأئمة الترجاني أنّه لا يؤخذ بقول المنجمين، وقول الدر المختار: (لا عبرة بقول الموقتين)، وقول البحر: (من يرجع إلى قولهم فقد خالف الشرع) وفي معراج الدراية (لا يعتبر قول المنجمين بالإجماع)، وقد ذكر إبن وهبان في منظومته الأقوال الثلاثة فقال: (وقول أولي التوقيت ليس بموجب، وقيل نعم، والبعض ان كان يكثر).
- ذكر النووي خمسة أوجه في مسألة إعتماد الحساب في الصيام، أوّلها وأصحّها: لا يلزم الحاسب ولا المنجم ولا غيرهما بذلك، لكن يجوز لهما (الصيام) دون غيرهما، ولا يجزئهما عن فرضهما، الثاني: يجوز لهما ويجزئهما، الثالث: يجوز للحاسب ولا يجوز للمنجمّ، والرابع: يجوز لهما ويجوز لغيرهما تقليدهما، والخامس: يجوز لهما ولغيرهما تقليد الحاسب دون المنّجم.
- ومع أن الإمام السبكي الشافعي، مال إلى عدم وجوب الصيام وعدم جوازه بالإعتماد على الحساب وانّه إذا دلّ الحساب على إمكان رؤيته ولم يُر، فإنَّ الشارع رتب الصيام على الرؤية وليس على إمكانها. رغم ذلك فهو يرى أنّه إذا دلّ الحساب على عدم إمكانية الرؤية، وشهد شاهدان أنّهما رأَيا الهلال، فإنّه يجب عدم قبول شهادتهما، لأنّ الحساب قطعي والشهادة والخبر ظنيان.
- ذكر القرافي الخلاف في المسألة على قولين عند المالكية والشافعية، وانّ القول المشهور في المذهبين، عدم إعتماد الحساب، وإذا دلّ حساب تسيير الكواكب على خروج الهلال من الشعاع من جهة علم الهيئة لا يجب الصيام، بل رؤية الهلال خارجاً من شعاع الشمس هو السبب، فإذا لم تحصل الرؤية لم يحصل السبب الشرعي.
من هذه النقول- وهناك كثير غيرها- يتبيّن أنّه ليس في المسألة إجماع بالمعنى الأصولي الذي يصبح معه الحكم قطعيّاً لا تصحّ مخالفته، والإجماع عند جمهور الأصوليين لا ينعقد بمخالفة الواحد، فكيف إذا خالف فيه علماء كبار ابتداءً من عصر السلف الأول إلى عصرنا الحاضر؟ إنّ هذا الموضوع قابل إذاً للبحث والمناقشة والإجتهاد، خاصة بعد تطور علم الفلك في عصرنا إلى القدر العظيم من الدقة الذي نشاهده ونعيشه كل يوم.
المقدمّة الثانية: موقف الإسلام من العلم والحساب.
من المعروف انّ الإسلام يرفع كثيراً من شأن العلم والعلماء، قال تعالى: ﴿يرفع الله الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات﴾، وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم (طلب العلم فريضة على كلّ مسلم)، فهو كالعبادة، يتقرّب به المسلم إلى ربه، وقد إتفق أكثر العلماء أنَّ الحد الأدنى من العلوم الشرعيّة الضروريّة، فرض عين على كلّ مسلم، أمّا العلوم الأخرى التي بها قوام الدنيا كالطب والحساب والفلك وغيرها، فهي فرض كفاية. وقد شنع الإمام الغزالي على أهل بلدة ليس فيها طبيب، ثم يتهاتر أهلها على دراسة علوم الفقه، والبلد مشحون بالفقهاء. وقد استغرب الشيخ نديم الجسر قول من يقول (أنّ العلم الذي حثّ على طلبه الإسلام هو في جوهره العلوم الدينية والشرعية وما يتعلّق بها وليس الفيزياء والكيمياء، وهو يرى أن الحث عام يشمل علم الدين الذي هو أعظم العلوم وأنفعها للمجتمع، ويشمل علم الطب، وكل علم ينفع الناس والمجتمع، واستدلّ على ذلك بقوله تعالى: ﴿ألم تر أنّ الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها، وغرابيب سود، ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنّما يخشى الله من عباده العلماء﴾ فهل العلماء هنا علماء الشريعة والفقه، أم هم علماء الطبيعة العالمون بأسرار النواميس في الحياة والنبات والحيوان والمطر وطبقات الأرض؟) ويقول السيد رشيد رضا: (المراد بالعلماء هنا الذين يعلمون أسرار الكون، وأسباب اختلاف أجناسه وأنواعه وألوانه وآيات الله وحكمه فيها).
وقد أطلق القرآن الكريم لفظ العلم على علوم الدين والدنيا:
- قال تعالى: ﴿ولا تقف ما ليس لك به علم...﴾
- وقال: ﴿أئتوني بكتاب من قبل هذا أو اثارة من علم إن كنتم صادقين﴾
- وقال: ﴿يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا...﴾
- وقال: ﴿ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير﴾
وقد أمر الله تعالى الإنسان ان يبحث في أرجاء الكون حوله، ولفت نظره إلى كثير من الآيات، وطلب منه ان يفكّر فيها ليكتشف سننها ﴿قل انظروا ماذا في السموات والأرض...﴾ ﴿ويتفكرون في خلق السموات والأرض...﴾ وخصّ الشمس والقمر بالمزيد من التنبيه إليهما بإعتبارهما من أعظم آيات الله المسخرة لخدمة الإنسان ﴿والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره...﴾ ﴿ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر...﴾. وكان من عجيب الإشارات القرآنية العلميّة ما ذكرته الآيات الكريمة من إنضباط في حركة الشمس والقمر بحساب دقيق ﴿فالق الإصباح، وجعل الليل سكناً، والشمس والقمر حسباناً...﴾ ﴿الشمس والقمر بحسبان...﴾ ﴿هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً، وقدّره منازل، لتعلموا عدد السنين والحساب...﴾ ﴿وجعلنا الليل والنهار آيتين، فمحونا آية الليل، وجعلنا آية النهار مبصرة، لتبتغوا فضلاً من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب...﴾ والحسبان: كلمة تدل على المبالغة كجوعان وشبعان، وهي تعني هنا الحساب الدقيق.
والآيتان الأخيرتان تشيران إلى أنّ الله تعالى قدّر ان يتحرّك القمر في منازل ليدفعنا إلى تعلّم حساب هذه المنازل، وجعل الليل والنهار آيتين تختصّ كل منهما بمزايا في خدمة الإنسان حتّى يتعلّم منهما حساب الليل والنهار، وعد الأشهر والسنين. وهذا يؤكّد أهميّة علوم الفلك وحساب حركة النجوم لتحقيق أكبر قدر من الإستفادة منها طالما ان الله تعالى سخرها لنا.
ورغم ان العلماء يعتبرون الأهلّة هي منازل القمر، وان الله تعالى جعلها وسيلة لتحديد المواقيت ﴿يسألونك عن الأهلّة، قل هي مواقيت للناس والحج...﴾، ويعتبرون دراسة حركة القمر وحسابها من فروض الكفاية، لكنّ أكثرهم يرفض أن يستفيد من هذه العلوم في تحديد مواقيت الصيام والحج، ويصرّ على إعتبار الرؤية البصريّة هي الوسيلة الشرعيّة الوحيدة لذلك، ولو أوقعته بالخطأ، مع أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم إني أعوذ بك من علمٍ لا ينفع...)، وقال: (اللهم انفعني بما علّمتني، وعلمني ما ينفعني...)، وقال: (لا تزول قدما العبد يوم القيامة حتّى يسأل عن أربع...) وعدَّ منها: (عن علمه فيما فعل)، وقد قال الله تعالى: ﴿وإنّه لذو علم لما علمّناه...﴾، قال قتادة: يعني لذو علم بما علّمناه. وقد كتب الشاطبي فصلاً خاصاً بعنوان: (إنّما فضل العلم لكونه وسيلة إلى العمل)، وقال فيه: (فالحاصل ان كل علم شرعي ليس مطلوباً إلاّ من جهة ما يتوسّل به إليه، وهو العمل. فكيف يصح للمسلم أن يطلب علم الحساب، والفقهاء يعتبرونه فرض كفاية، ثمّ لا ينتفع به ويعمل بخلافه؟
المقدمّة الثالثة: الحكم الشرعي التكليفي والوضعي.
أ- يعرّف الأصوليون الحكم الشرعي بأنّه (خطاب الله المتعلّق بأفعال المكلّفين بالإقتضاء أو التخيير أو الوضع). و(خطاب الله تعالى) يُعرف من خلال القرآن الكريم أو السنّة المطهّرة أو ما دلّ عليه القرآن والسنّة. (المتعلّق بأفعال المكلّفين) أي الخطاب الذي يترتب عليه فعل من المسلم المكلّف. (بالإقتضاء) أي الطلب، سواء كان طلب فعل أو ترك، وسواء كان على سبيل الإلزام أو الترجيح.
(والتخيير) أي الإباحة، وهي التسوية بين فعل شيء وتركه، (والوضع) هو جعل أمر من الأمور سبباً لآخر، أو شرطاً له، أو مانعاً منه.
ب- بناءً على هذا التعريف، ينقسم الحكم الشرعي إلى قسمين:
- الحكم الشرعي التكليفي: وهو ما يقتضي طلب الفعل، أو الكف عنه، أو التخيير بين فعله وتركه، وهو يشمل الوجوب والإستحباب والإباحة والكراهة والتحريم، ومن أمثلة ذلك وجوب الصلاة، واستحباب الاغتسال يوم الجمعة، وإباحة بعض وسائل الترفيه، وكراهة السفر قبل صلاة الجمعة، وتحريم السرقة وغير ذلك مما هو معروف.
- الحكم الشرعي الوضعي: وهو ما يقتضي جعل شيء سبباً لشيء، أو شرطاً له، أو مانعاً منه، وهو بالتالي ليس فيه أي طلب من المكلّف بفعل أو ترك، بل هو بيان من الشارع مثل: اعتبار زوال الشمس سبباً لوجوب الصلاة، أو اعتبار السرقة سبباً لوجوب الحدّ، أو اعتبار النكاح سبباً لحلّ المعاشرة، أو اعتبار الوضوء شرطاً لصحّة الصلاة، أو اعتبار قتل الوارث لمورثه مانعاً من الإرث.
ج- كلمة حول السبب:
هذه الدراسة، تتناول تمحيص سبب وجوب الصيام، وهل هو دخول الشهر أم رؤية الهلال، لذلك لابدّ من كلمة مختصرة حول السبب كما يتحدّث عنه الأصوليون، فنقول:
السبب: (هو وصف ظاهر منضبط دلّ الدليل السمعي على كونه معرّفاً لحكم شرعي)، فهو إذاً علامة على الحكم وجوداً أو عدماً، فإذا كانت بين هذه العلامة وبين الحكم مناسبة يدركها العقل، سُمّöي هذا السبب علّة. مثل: السفر سبب لإباحة الإفطار، فالسفر عادة مظنَّة للمشقّة، فيناسبه الترخيص للصائم بالإفطار، ولذلك يقال في هذا المثال: السفر سبب أو علّة لإباحة الإفطار. أمّا إذا لم تكن هناك مناسبة بين السبب والحكم يدركها العقل، فهو عند ذلك يُسمّى سبباً فقط. مثل غروب الشمس سبب لصلاة المغرب، أو دخول رمضان سبب للصيام.
ونحن نرجح اقتصار تسمية السبب على ما لم يكن بينه وبين الحكم مناسبة يدركها العقل، واعتبار النوع الأول من الأسباب التي يدرك العقل مناسبة بينها وبين الحكم علّة لذلك الحكم. وبذلك يتّضح الفرق بين السبب والعلّة.