1- الحكم الشرعي التكليفي هو وجوب صيام الشهر كلّه.
القرآن الكريم يتحدّث عن صيام الشهر.
قال الله تعالى: ﴿شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، فمن شهد منكم الشهر فليصمه ...﴾، ورأى جمهور المفسّرين أنّ الصيام واجب على كلّ مسلم دخل عليه شهر رمضان وهو مقيم غير معذور. وشهد هنا بمعنى حضر ولا علاقة لها برؤية الهلال. جاء في (لسان العرب) فمن شهد منكم الشهر، أي كان حاضراً غير غائب في سفر.
والرسول صلى الله عليه وسلّم في الكثير من أحاديثه الصحيحة تحدّث عن صيام شهر رمضان.
فعدّ من أركان الإسلام الخمس (صوم رمضان). وقد أجاب الأعرابي الذي سأله عن عمل يدخله الجنّة (تعبد الله.... وتصوم رمضان)، وأجاب الرجل النجدي الذي سأله عن الإسلام، فذكر له الصلوات الخمس وأضاف (وصيام رمضان)، قال: هل عليّ غيره؟ قال: لا إلاّ أن تطوع. هذه أحاديث متفق عليها، وغيرها كثير جداً حفلت بها كلّ كتب السنّة من الصحيحين، والسنن الأربعة، ومسند أحمد، وموطأ مالك وغيرها حتّى بلغت حد التواتر المعنوي، لذلك فقد أجمع المسلمون من جميع المذاهب، وفي مختلف العصور على وجوب صيام رمضان،لم يشذ عن ذلك أحد، بل واتفق علماؤهم على ردّة كل من ينكر وجوب صيام رمضان، لأنّه لا معنى لذلك إلاّ التكذيب لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلّم.
2- شهر رمضان هو الشهر التاسع من أشهر السنة القمريّة، ومن المعروف أنّ العرب كانوا يتعاملون وفق التقويم القمري، وقد أقرّ الإسلام ذلك بقوله تعالى: ﴿يسألونك عن الأهلّة، قل هي مواقيت للناس والحج...﴾،وجاء النص واضحاً في ربط فريضة الصيام بشهر رمضان، وفي ربط فريضة الحج بالأشهر القمرية (شوال- ذو القعدة- ذو الحجّة) لقوله تعالى: ﴿الحج أشهر معلومات،...﴾، واعتبر العلماء الحول المشترط لإستحقاق الزكاة سنة قمريّة، إستناداً إلى سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعمل الصحابة.
أمّا الصلاة وهي خمس مرّات في اليوم والليلة، فقد ارتبطت بحركة الشمس اليومية لأنّها ظاهرة لجميع الناس، وربط أوقات الصلاة بها ميسور للعالم والجاهل. أمّا حركة القمر في اليوم فلا يمكن ربط أوقات الصلاة بها، لأنّ القمر لا يُرى عادة في النهار.
3- عندما فرض الله على المسلمين الصيام في شهر رمضان، فهموا أنّ المقصود هو الشهر الذي يعرفونه، ويتعاملون به في مواقيتهم، ولم يخطر على بال أحد منهم أنّ الله تعالى جعل حدوداً مختلفة لهذا الشهر تجعله مختلفاً عن الشهر الفلكي الناتج عن حركة القمر حول الأرض. فقد كان العرب يعرفون هذه الحركة، ويشاهدون إنتقال القمر يوميّاً من منزلة إلى أخرى، ويسمّون كل منزلة بإسمها، وقد أحصوا منازل القمر بثمانية وعشرين منزلة، باعتبار أنّ اليوم التاسع والعشرين هو يوم الدخول في المحاق والخروج منه.
وقد أشار الله تعالى إلى إنضباط حركة القمر حول الأرض فقال: ﴿...والقمر قدرناه منازل حتّى عاد كالعرجون القديم﴾﴿هو الذي جعل الشمس ضياءً، والقمر نوراً، وقدّره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب﴾. فالشهر القمري يبدأ بخروج القمر من المحاق، والمحاق يشير إلى الوقت الذي يكون فيه القمر بين الأرض والشمس على الخط نفسه، فلا يظهر منه شيء لأهل الأرض، حتّى إذا خرج من هذا الخط أمكن ظهوره لأهل الأرض، لأنّ جزء يسيراً منه يتلّقى أشعة الشمس ويعكسها على الأرض، على شكل خط رفيع يسمّى الهلال، ثمّ يكبر هذا الجزء كلّما ابتعد عن خط المحاق، وينتقل كلّ يوم من منزلة إلى أخرى، حتّى إذا مضت سبعة أيام صار على شكل نصف دائرة، وفي اليوم الخامس عشر تتوسط الأرض تماماً بين الشمس والقمر، فيظهر القمر على شكل دائرة كاملة هي (البدر)، ثمّ تبدأ الدائرة بالتناقص تدريجيّاً حتّى يعود القمر هلالاً كما بدأ، ثمّ يدخل في المحاق من جديد، وينتهي بذلك الشهر القمري، ليبدأ شهر جديد عند خروج القمر من المحاق مرّة أخرى.
4- هذه الحركة الدوريّة للقمر حول الأرض كانت معروفة عند المسلمين، وكانوا يتتبعونها بالحساب، لكنّ العلوم عندهم لم تكن قد وصلت إلى درجة كافية من الضبط، وكان الذين يشتغلون بهذا العلم قلّة نادرة، ولم تكن هناك وسائل إعلام تنقل نتائج حساباتهم للناس. ثمّ إنّ علماء الفلك هؤلاء اختلطوا بالمنجمين، وهناك فارق كبير بينهما. فالمنجّم هو الذي يزعم معرفة حظوظ الناس ومستقبلهم ومصيرهم بحسب مواقع النجوم عند ولادتهم، وهو الذي ينظر في النجوم ويحسب حركتها فيتوّهم من خلالها معرفة أحوال الناس والعالم، وهو يعتقد أنّ النجوم وحركتها توثّر في سلوك الناس وأعمالهم وحياتهم. فالتنجيم يستغلّ العلم لإدّعاء الغيب، وهو يناقض عقيدة التوحيد. أمّا الفلكي فهو يدرس قوانين حركة الأجرام السماوية ويجري القياسات والاختبارات والحسابات المتعلّقة بها، وهو علم واسع جداً يستغرق الطلاب في الجامعات أكثر من عشرة أعوام في دراسته، لأنّه يشمل دراسة (القياس الفلكي-Astrometry) (والميكانيك السماوي Celestial mechanics) (والفيزياء الفلكية Astrophysics) (وفيزياء الفضاء Space physics) (والبصريات الفضائية Space Optics) (وعلوم القمر Selenology) (والأرصاد الجوية Meteorology) (والاتصالات الفضائية Space communication) ومواضيع أخرى كثيرة، بينما المنجّم لا يحتاج إلا إلى شهور قليلة لإتقان مهنته القائمة على الشعوذة وعلى علم بدائي بحركة النجوم، مع الخوض في الغيب بما لم يأذن به الله. لذلك وردت الأحاديث الصحيحة بالنهي عن التنجيم (من اقتبس علماً من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد). (من صدّق كاهناً أو عرّافاً أو منجّماً، فقد كفر بما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلّم). وقد يكون هذا الإلتباس بين علم الحساب وبين التنجيم أحد أسباب رفض كثير من العلماء إعتماد الحساب في إثبات الهلال، خاصة وأنّ أكثر هؤلاء يستخدم عبارة التنجيم والمنّجم بدل عبارة الحساب والحاسب. وقدّ ردَّ الإمام السرخسي جواز إعتماد الحساب بحديث: (من أتى كاهناً أو منجّماً، فقد كفر بما أنزل على محمد)، وقال الحلواني: (لا يؤخذ بقول المنجمّين)، وقال الترجاني: (لا إعتماد على قول المنجّمين)، وقال الشيخ خليل: (لا يثبت - أي الهلال - بقول المنجّم)، ويقول إبن حجر: (لا يجب الصوم بقول منجّم)، وقال ابن بزيزة: (نهت الشريعة عن الخوض في علم النجوم لأنّها حدس وتخمين، ليس فيها قطع ولا ظن غالب، ومع أنّه لو ارتبط الأمر بها لضاق، إذ لا يعرفها إلاّ القليل). فكلّ هؤلاء رفضوا اعتماد الحساب لمعرفة دخول رمضان لإختلاطه عندهم مع التنجيم المنهي عنه.
5- والشهر القمري المعروف عند الناس منذ القديم يكون 29يوماً أو30يوماً. وقدّ أكّد رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذلك في الحديث الصحيح: (إنّا أمّة أميّة، لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا، يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين)، ولم يفرض عليهم الصيام أياماً محددة، بل أمرهم أن يعودوا إلى الشهر، فإن ثبت لهم أنّه تسع وعشرون يوماً إلتزموا به، وإن غمّ عليهم أكملوا العدة ثلاثين. مما يعني بوضوح أنّ المطلوب منهم الإلتزام بالشهر كما تكون حقيقته.
6- لكن الإشكال الذي وقع فيه المسلمون هو معرفة بداية الشهر ونهايته، ولماّلم يكن علم الحساب متقّدماً بالشكل الكافي لمعرفة ذلك، فقد أرشدهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى الطريقة الوحيدة الممكنة والميسورة في عصره، وهي رؤية الهلال بعد ولادته، لأنّها هي التي تؤكّد لهم دخول الشهر، وعلَّل ذلك بأنّا: (أمّة أمّية لا نكتب ولا نحسب) أي لا توجد عندنا طريقة أخرى لمعرفة ولادة الهلال.
لقد كانت الرؤية البصريّة هي الوسيلة التي تُوصل إلى أكبر قدر من اليقين بدخول شهر رمضان، فأمرهم بها، ونهاهم عن الوسائل الأخرى فقال: (لا تصوموا حتّى تروه، ولا تفطروا حتّى تروه، فإن غمّ عليكم، فاقدروا له)، (صوموا لرؤيته، وافطروا لرؤيته...)، (إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فافطروا). ومن هنا فهم كثير من العلماء أنّ (الرؤية هي سبب الصيام)، فقوله صلى الله عليه وسلّم: (صوموا لرؤيته)، كقوله تعالى: ﴿أقم الصلاة لدلوك الشمس﴾ فالدلوك هو سبب الصلاة، والرؤية هي سبب الصيام. والمنع من الصيام إذا لم يروا الهلال يعني منع استعمال أي وسيلة أخرى، وهو ما يؤكّد في نظرهم أنّ الرؤية هي السبب الشرعي.
7- هذا الإشكال الذي وقع فيه المسلمون حول معرفة بداية شهر رمضان ونهايته، ينقلنا إلى دراسة الحُكم الشرعي الوضعي المتعلّق برمضان، وهو معرفة السبب الشرعي للصيام، هل هو دخول الشهر أم رؤية الهلال؟