الفصل الثالث: الحكم الشرعي الوضعي
ما هو السبب الشرعي لوجوب الصيام؟
المبحث الأول: القائلون أنّ السبب هو رؤية الهلال:
1- يرى جمهور الفقهاء والمذاهب أنّ السبب الشرعي لوجوب الصيام هو رؤية الهلال أو إكمال العدّة. بعضهم يصرّح بذلك، وأكثرهم يؤكّد أنّ الصيام في نظرهم لا يجب إلاّ بالرؤية:
- فعند الأحناف المعتمد (أنّ شرط وجوب الصوم والإفطار رؤية الهلال، وأنّه لا عبرة بقول المنجّمين ولو عدولاً، ومن رجع إلى قولهم فقد خالف الشرع). وهذا يفهم منه أنّ السبب في نظرهم هو الرؤية.
- والراجح عند المالكية أنّ (رؤية الهلال خارجاً من شعاع الشمس هو السبب، فإذا لم تحصل الرؤية لم يحصل السبب الشرعي، فلا يثبت الحكم...)، (ولو كان الإمام يرى الحساب فأثبت الهلال به، لم يتبع لإجماع السلف على خلافه).
- والمشهور عند الشافعية أنّه (لا يجب صوم رمضان إلاّ بدخوله، ويعلم دخوله برؤية الهلال، فإن غمّ، وجب إستكمال شعبان ثلاثين)، وفي هذا الحصر نفي لإعتماد الحساب، وقد صرح كثير من الشافعيّة برفضه لأنّه حدس وتخمين، رغم إعتباره في أوقات الصلوات.
- والحنابلة لا يتعبرون الحساب الفلكي في إثبات رمضان ولو كثرت حسابته.
2- ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية أنّ (الطريق إلى معرفة طلوع الهلال، هو الرؤية لا غيرها)، وأنّ توقيت الشهر والسنة يكون بالهلال، (وأنّه ليس شيئ يقوم مقام الهلال البتة، لظهوره وظهور العدد المبني عليه، وتيسر ذلك وعمومه)، وأنّ (المواقيت كلّها معلّقة بالهلال)، وأنّه (ليس للمواقيت حد ظاهر عام للمعرفة إلاّ الهلال)، وأنّ الله تعالى جعل (الأهلّة مواقيت للناس في الأحكام الثابتة بالشرع إبتداءً، أو سبباً في العبادة). ولذلك يرى ابن تيمية أنّ (العمل في رؤية الهلال بخبر الحاسب لا يجوز)، و(أنّ المسلمين أجمعوا على ذلك، ولم يخالف فيه إلاّ بعض المتأخرين من المتفقهة بعد المائة الثالثة، وقولهم مقيّد بحالة الإغمام، ومختص بالحاسب دون غيره، وهو شاذ مسبوق بالإجماع على خلافه. فأمّا إتباع ذلك في الصحو، أو تعليق عموم الحكم به فما قاله مسلم).
3- يقول ابن حجر في شرحه لحديث (إنّا أمّة أميّة، لا نكتب ولا نحسب ...) :(المراد بالحساب هنا حساب النجوم وتسييرها، ولو لم يكونوا يعرفون من ذلك إلاّ النذر اليسير، فعلّق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية، لدفع الحرج عنهم في معاناة حساب التسيير، واستمرّ الحكم في الصوم ولو حدث بعدهم من يعرف ذلك، بل ظاهر السياق يُشعر بنفي تعليق الحكم بالحساب أصلاً. ويوضحه الحديث - فإن غمّ عليكم فأكملوا العدّة ثلاثين- ولم يقل فسألوا أهل الحساب).
4- يقول السبكي في تعليقه على حديث (إنّا أمّة أميّة، لا نكتب ولا نحسب ...) :(وقد تأملّت هذا الحديث فوجدت معناه إلغاء ما يقوله أهل الهيئة والحساب، من أنّ الشهر عندهم عبارة عن مفارقة الهلال شعاع الشمس، فهو أول الشهر عندهم، ويبقى الشهر إلى أن يجتمع معها ويفارقها، فالشهر عندهم ما بين ذلك، وهذا باطل في الشرع قطعاً لا اعتبار فيه ... فالشهر في الشرع ما بين الهلالين، ويدرك ذلك إمّا برؤية الهلال، أو بإكمال العدّة ثلاثين). ثم ذكر السبكي حالة (ما إذا دلّ الحساب على مفارقة الشعاع، ومضت عليه مدّة يمكن أن يرى فيها عند الغروب، فقد اختلف العلماء في جواز الصوم بذلك للحاسب ولغيره، فمنهم من قال بالجواز وهم علماء كبار، وحجّتهم أنّ المقصود وجود الهلال وإمكان رؤيته، لكن الصحيح عند السبكي عدم الجواز). وهو يرى أنّ (ترتيب الحكم للشارع، وقد رتّبه على الرؤية)، فالسبب عنده هو (نفس الرؤية أو إكمال العدّة)، وليس مجرّد إمكان الرؤية.
5- أمّا القرافي فهو يقول: (إنّ حساب الأهلّة والكسوفات والخسوفات قطعي، فإنّ الله تعالى أجرى عادته بأنّ حركات الأفلاك وإنتقالات الكواكب السبعة السيارة، على نظام واحد طول الدهر بتقدير العزيز العليم، قال الله تعالى: ﴿والقمر قدرّناه منازل حتّى عاد كالعرجون القديم﴾، وقال تعالى: ﴿الشمس والقمر بحسبان﴾ أي هما ذوا حساب، فلا ينخرم ذلك أبداً، وكذلك الفصول الأربعة لا تنخرم، والعوائد إذا استمرّت أفادت القطع، وإذا حصل القطع بالحساب ينبغي أن يعتمد عليه كأوقات الصلاة، فإنّه لا غاية بعد حصول القطع). ورغم هذا البيان الواضح الذي يؤدّي بالضرورة إلى اعتماد الحساب لمعرفة بداية الشهر ونهايته، إلاّ أنّ القرافي عاد إلى رأي الجمهور، وعلل ذلك بالفرق بين اعتماد الحساب لمعرفة مواقيت الصلاة، واعتماده في تحديد بداية الصيام، قال: (والفرق، وهو المطلوب هنا، وهو عدّة السلف والخلف، انّ الله تعالى نصب زوال الشمس سبب وجوب الظهر، وكذلك بقية الأوقات لقوله تعالى: ﴿أقم الصلاة لدلوك الشمس﴾ - أي لأجله -، فالآية دالة على إيقاع الصلاة في هذا الوقت، ومثله الأوقات الأخرى، والسنّة دالة على أنّ نفس الوقت سبب، فمن علم السبب بأي طريقة كان لزمه حكمه. فلذلك اعتبر الحساب المفيد للقطع في أوقات الصلوات. وأمّا الأهلّة فلم ينصب صاحب الشرع خروجها من الشعاع سبباً للصوم، بل رؤية الهلال خارجاً من شعاع الشمس هو السبب، فإذا لم تحصل الرؤية لم يحصل السبب الشرعي، فلا يثبت الحكم. ويدلّ على أنّ صاحب الشرع لم ينصب نفس خروج الهلال عن شعاع الشمس سبباً للصوم، قوله صلى الله عليه وسلّم: (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته)، ولم يقل لخروجه عن شعاع الشمس).
6- والذي يخفف من تشدد السبكي في رأيه هذا، هو قبوله الحساب القطعي في النفي وليس في الإثبات، فإذا جزم الحساب بعدم وجود الهلال أصلاً، أو إذا جزم بعدم إمكان رؤيته رغم وجوده، ثم شهد الشهود أنّهم رأوه، فإنّ شهادتهم ترد، لأنّ الحساب قطعي والشهادة ظنيّة. ونصّ قوله: (وها هنا صورة أخرى، وهو أن يدلّ الحساب على عدم إمكانية رؤيته ... ففي هذه الحالة لا يمكن فرض رؤيتنا له حساً لأنّه يستحيل، فلو أخبرنا به مُخبر واحد أو أكثر ممن يحتمل خبره الكذب أو الغلط، فالذي يتجّه عدم قبول هذا الخبر، وحمله على الكذب أو الغلط، ولو شهد به شاهدان لم تقبل شهادتهما، لأنّ الحساب قطعي، والشهادة والخبر ظنيّان، والظن لا يعارض القطع، فضلاً عن أن يقدّم عليه. والبينة شرطها أن يكون ما شهدت به ممكناً حساً وعقلاً وشرعاً، فإذا فرض دلالة الحساب عقلاً على عدم الإمكان، استحال القبول شرعاً لإستحالة المشهود به، والشرع لا يأتي بالمستحيلات ... وتجويز الكذب أو الغلط على الشاهدين أولى من تجويز انخرام العادة).
ورغم وضوح هذا الكلام وقوّة حجّته إلاّ أنّ كثيراً من العلماء لا يأخذون به رغم وضوح صحّته، ويفضّلون قبول شهادة شاهدين على رؤية الهلال، ولو كانت كلّ الحسابات العلميّة تؤكّد عدم ولادة الهلال أصلاً، أو عدم إمكان رؤيته.
المبحث الثاني: القائلون أنّ السبب هو إمكان رؤية الهلال:
تحدّث بعض الفقهاء أنّ السبب الشرعي لوجوب الصيام هو (وجود الهلال وإمكان رؤيته) وليس رؤيته حقيقة، وأنا أنقل الأقوال التي اطلعت عليها:
- قال القشيري: ( إذا دلّ الحساب على أنّ الهلال قد طلع من الأفق على وجه يرى، لولا وجود المانع كالغيم مثلاً، فهذا يقتضي الوجوب لوجود السبب الشرعي. وليس حقيقة الرؤية مشروطة في اللزوم، فإنّ الإتفاق على أنّ المحبوس في المطمورة إذا علم بإتمام العدّة أو بالإجتهاد أنّ اليوم من رمضان وجب عليه الصوم).
- يرى السيد رشيد رضا أنّ الشارع حدّد أوقاتاً للعبادات، ووضع لها علامات ترشدنا إليها، لكن (غرض الشارع من ذلك العلم بهذه الأوقات، لا التعبّد برؤية الهلال، ولا بتبيين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، ولا التعبّد برؤية ظل الزوال وقت الظهر ...، فغرض الشارع في مواقيت العبادة معرفتها، وما ذكره من نوط إثبات الشهر برؤية الهلال أو إكمال العدّة قد علّله بكون الأمّة في عهده كانت أميّة، ومن مقاصد بعثته إخراجها من الأميّة لا إبقاؤها فيها، قال تعالى: ﴿هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزّكيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة...﴾ وبناءً على ذلك، يرى السيد رشيد رضا امام المسلمين طريقتين: (إمّا العمل بظواهر نصوص الشرع وعمل النبي وأصحابه في الصدر الأول في مواقيت الصلاة والصيام والحج، من رؤية الفجر والظل والغروب والشفق والهلال عند الإمكان، وبالتقدير أو رؤية العلامات عند عدم الإمكان، وفي هذه الحالة لا يجوز لمؤذن الفجر أن يؤذّن إلاّ إذا رأى ضوءه معترضاً في جهة المشرق.. إلخ, وإمّا أن تعمل بالحساب والمراصد عند ثبوت إفادتها بالعلم القطعي بهذه المواقيت، ولو مع المحافظة على الإستهلال ورؤية الهلال في حال عدم المانع من رؤيته، للجمع بين ظاهر النص والمراد منه... وفي غير حالة الصحو وعدم المانع من رؤية الهلال، يكون إثبات الشهر بإكمال العدّة ثلاثين ظنيّاً أو دون الظني، ومن قواعد الشريعة أنّ العلم يُقدّم على الظن). ويرى السيد رشيد رضا أنّ الحساب اليوم يفيد (العلم القطعي بوجود الهلال وإمكان رؤيته)، وهو أصح من إثبات الشهر بإكمال عدّة شعبان ثلاثين يوماً، وإنّ الذين لم يبيحوا العمل بالحساب قد علّلوه بأنّه ظن وتخمين لا يفيد علماً ولا ظناً.
- حكى ابن سريج عن الشافعي أنّه قال: (من كان مذهبه الاستدلال بالنجوم ومنازل القمر، ثم تبيّن له من جهة الاستدلال أنّ الهلال مرئي وقد غمّ، فإنّ له أن يعقد الصوم ويجزيه)، ومعنى ذلك أنّ وجود الهلال وإمكان رؤيته هو السبب الشرعي لوجوب الصيام، لأنّه لو صام بناء على ذلك أجزأه الصيام.
- ذكر الإمام السبكي حالة ما إذا دلّ الحساب على أنّ الهلال (فارق الشعاع، ومضت عليه مدّة يمكن أن يرى فيها عند الغروب، فقد اختلف العلماء في جواز الصوم بذلك وفي (وجوبه) وذكر أنّ القول الثاني هو الجواز، ومعناه أنّ المقصود عندهم (وجود الهلال وإمكان رؤيته)، وانّ هذا القول قاله كبار من العلماء، ولم يذكر أسماء هؤلاء الكبار، لكنّه رجح القول الأول، وهو عدم الوجوب وعدم الجواز، لأنّ الشارع رتب الحكم على الرؤية. ولخّص السبكي الخلاف في مسألة ما إذا دلّ الحساب على إمكان الرؤية ولم ير بقولين، الأول: أنّ السبب هو نفس الرؤية وإكمال العدّة، والثاني: أنّ السبب هو إمكان الرؤية. واعتبر القول الأول هو الأصح.
المبحث الثالث: القائلون أنّ دخول رمضان هو سبب الوجوب:
أجمع الفقهاء قديماً وحديثاً أنّ الواجب على المسلم صوم شهر رمضان كاملاً من أوّله إلى آخره، وعلى حرمة صيام يوم الفطر -وهو الأول من شوّال- لحديث أبي سعيد الخدري أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم نهى عن صوم يومين: (يوم الفطر ويوم النحر)، وصرّح كثير منهم بكراهة صيام يوم الشكّ - وهو الثلاثون من شعبان- للحديث المشهور: (من صام اليوم الذي يُشكّ فيه فقد عصا أبا القاسم صلى الله عليه وسلّم). وقد صح في الحديث أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصوموا قبل رمضان...) وأمرهم أن لا يفطروا آخر رمضان إلاّ إذا رأو الهلال أو أكملوا الثلاثين.
وهذا يعني أنّ سبب الوجوب هو دخول رمضان، لكن لم أجد من صرّح بذلك من الفقهاء إلاّ القليل، وسبب ذلك هو كثرة الأحاديث الصحيحة التي تبيّن أنّ رؤية الهلال هي التي تعلمنا بدخول الشهر، وتأمر بالصيام عند حصولها، وبعضها يمنع الإعتماد على أية وسيلة أخرى، ، حتّى صرّح الكثير منهم أنّ الصيام معلّق على الرؤية، أو بعضهم صرّح كما مرّ سابقاً أنّ الرؤية هي السبب الشرعي لوجوب الصيام، أو اكتفى بإمكان الرؤية سبباً للصيام. وسأذكر في هذا المبحث الأقوال التي اطلعّت عليها والتي تذكر أنّ سبب الوجوب هو دخول رمضان، وبالتالي فإنّ الرؤية هي مجرّد وسيلة لمعرفة السبب:
- ذكر الإمام النووي أنّه (لا يجب صوم رمضان إلاّ بدخوله، ويعلم بدخوله برؤية الهلال، فإن غمّ وجب إستكمال شعبان ثلاثين)، ومعنى ذلك أنّ دخول رمضان هو سبب وجوب الصيام، وأنّ رؤية الهلال هي وسيلة العلم بدخوله.
- ذكر السيد رشيد رضا أنّ غرض الشارع من تحديد الهلال كوسيلة لإثبات أول شهر رمضان وأول شهر شوال هو (العلم بهذه الأوقات، وليس التعبّد برؤية الهلال... وما ذكره صلى الله عليه وسلم من نوط إثبات الشهر برؤية الهلال أو اكمال العدّة بشرطه، قد عللّه بكون الأمّة في عهده كانت أميّة، ومن مقاصد بعثته إخراجها من الأميّة لا إبقاؤها فيها ...)، ويُفهم من ذلك أنّ سبب وجوب الصيام دخول الشهر، وإنّ رؤية الهلال هي وسيلة لذلك، وانّها كانت معلّلة، ويمكن استبدالها بوسيلة أخرى إذا تغيّرت العلّة، أو وجدت وسيلة أخرى أكثر يقيناً بتحقق السبب.
- ويفهم أيضاً عن أمير المؤمنين علي أبي طالب رضي الله عنه، أنّ سبب وجوب الصيام هو دخول رمضان وليس رؤية الهلال، وذلك من خلال ما ورد عنه في مسند زيد بن علي زين العابدين أنّ قوماً جاؤوا عليّاً فشهدوا أنّهم صاموا لرؤية الهلال، وأنّهم قد أتّموا ثلاثين، فقال عليّ: (إنّا لم نصم إلاّ ثمانية وعشرين يوماً، فدعا بهم، ودعا المصحف فأشهدهم بالله وبما فيه من القرآن العظيم ما كذبوا، ثمّ أمر الناس فأفطروا، وأمرهم بقضاء يوم...). وقد ورد مثل ذلك عن الوليد بن عتبة الليثي، قال: (صمنا مع علي ثمانية وعشرين يوماً، فأمرنا يوم الفطر أن نقضي يوماً)، ويعنى ذلك أنّ سبب وجوب الصيام عنده هو دخول الشهر، لأنّه اعتبر أنّ اليوم الذي أفطر فيه باعتباره من شعبان، هو في الحقيقة الأول من رمضان، وإن لم يثبت له ذلك عن طريق الوسيلة الشرعية المعتمدة: رؤية الهلال أو إكمال العدّة.
- وقد ذكر الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله، في معرض بحثه عن (السبب) أنّ: (الشهر هو إمارة على وجوب الصوم).
- كما ذكر الشيخ عبد الله الجديع من أمثلة ما جعلته الشريعة سبباً: (دخول الشهر لوجوب صوم رمضان) أخذاً من قوله تعالى ﴿فمن شهد منكم الشهر فليصمه ...﴾.
- وقد ذكر الدكتور عبد الكريم زيدان من أمثلة السبب الشرعي (دلوك الشمس لوجوب الصلاة، وشهر رمضان لوجوب الصيام).
المبحث الرابع: إبطال القول بأنّ الرؤية أو إمكان الرؤية أو إكمال العدّة هي السبب الشرعي للصيام.
أولاً: إنّ تحديد السبب الشرعي للصيام ينحصر بين دخول الشهر أو رؤية الهلال.
ذلك أنه قد وردت كثير من الأحاديث الصحيحة التي يفهم منها أن الرؤية هي السبب، منها قوله صلى الله عليه وآله وسلّم: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ...) وأمثاله. أما إمكان الرؤية فهي اعتبرت سبباً بالاجتهاد عند تعذّر الرؤية، وهي محاولة للتوفيق بين الأحاديث التي تعلّق الصوم على رؤية الهلال، وبين ما إذا تأكّدنا من وجود الهلال دون أن نراه.
لقد رجحنا في تعريف السبب أنه ينحصر فيما لا يوجد بينه وبين الحكم علّة مناسبة، فإذا مضينا مع هذا الترجيح فنقول: إنّ الرؤية ليست سبباً شرعياً للصيام، لأنها معلّله بقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: (إنّا أمّة أميّة لا نقرأ ولا نحسب. الشهر هكذا وهكذا)، وإذا أخذنا بالقول الثاني، وهو أنّ السبب يمكن أن يكون علّة، فهذا سيضطرنا للقول بإمكان تغيير السبب، لأنّ الحكم كما هو معروف: (يدور مع علّته وجوداً وعدماً). وإذا لم نعتبر الرؤية هي السبب الشرعي للصيام، فإمكان الرؤية لا تكون سبباً أيضاً. أما إكمال العدّة فهي لا يمكن أن تكون سبباً، لأنّها ليست وسيلة لتحديد دخول الشهر، إنما هي (اعتماد الأحوط) في دخول الشهر والخروج منه، وقد يتبيّن خطؤها بعد ذلك في تحديد بداية الشهر أو نهايته، وقد حدث ذلك مئات المرّات.
ثانياً: يعرّف الأصوليون السبب بأنّه: (وصف ظاهر منضبط ...). فالرؤية ليست وصفاً يتعلّق بالهلال وولادته - وهو المعوّل عليه في دخول الشهر – إنما هي وصف يتعلّق بالإنسان الذي يرى. وهو لا علاقة له بسببية الصيام، لأنّ سبب الصيام خارج عنه. والرؤية ليست وصفاً ظاهراً، ففي أكثر الأحيان وبالنسبة لأكثر الناس، وفي أكثر الأماكن، فإنّ الرؤية لا تتحقّق. دلّ ذلك على أنّها وصف (غير ظاهر) في أكثر الحالات. والرؤية ليست وصفاً منضبطاً لأنها تتأثّر بالأشخاص، وبالأماكن، وبالجو، وبغير ذلك من الأسباب العلمية المعروفة.
لذلك فإنّ الرؤية لا تصلح لأن تكون سبباً شرعياً للصيام وفق تعريف الأصوليين. وإمكان الرؤية ليس سبباً من باب أولى.
وإكمال عدّة الشهر ليس سبباً لأنه لا يحدّد بداية الشهر ونهايته بل يعتمد الأحوط في ذلك. واعتماد الأحوط لا يكون إلاّ عند فقدان الدليل وعدم معرفة السبب.
ثالثاً: لم يعرف في الأحكام الشرعية التكليفية أنّها تبنى على سبب تخيري، إمّا رؤية الهلال أو إكمال العدّة، فالسبب الشرعي يكون دائماً واحداً، ولا يكون تخييراً بين أمرين. مثل: دخول الوقت سبب لوجوب الصلاة، وملك النصاب سبب لوجوب الزكاة، والسفر سبب لإباحة الفطر وقصر الصلاة، والزنا سبب لوجوب الحدّ، والاضطرار سبب لإباحة الميتة، والجنون سبب لوجوب الحجر، والقتل سبب لوجوب القصاص، والموت سبب لإستحقاق الإرث، والنكاح سبب لحلّ المعاشرة الزوجية، والطلاق سبب لإزالة هذا الحل، وهكذا ...
بناءً على ذلك لا يصحّ من الناحية الأصولية أن نقول: إنّ رؤية هلال رمضان هي سبب وجوب صيامه، فإن لم ير الهلال فإنّ إكمال العدّة هي السبب، فمثل هذا التخيير ليس له مثيل في الأسباب، والصحيح أنّ يقال: إنّ دخول شهر رمضان هو سبب وجوب الصيام، ويعرف دخوله برؤية هلاله، والإّ فبإكمال العدّة. فالسبب لا يتغير، يقول الشاطبي: (ما أثبت سبباً، فهو سبب أبداً لا يرتفع ...)، وهو هنا اختيار رمضان لإيجاب الصوم فيه، أمّا الوسيلة المستعملة للتحقق من وجود السبب فقد تكون قابلة للتغيير، وهي وسيلة تبقى مطلوبة بمقدار تحقيقها للهدف.
رابعاً: إذا قلنا أنّ الرؤية هي الوسيلة التي شرعها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعرفة بداية الشهر ونهايته، فإنّها تأخذ حكم الوسائل. والوسائل تتبع في حكمها للمقاصد وللأهداف، فهي معللة من حيث الأصل بإمكان تحقيق المقصد أو الهدف منها، فإذا تخلّفت الوسيلة عن تحقيق الهدف منها لا تعود مطلوبة شرعاً، وإذا وُجدت وسيلة أخرى (مشروعة) أفضل منها في تحقيق الهدف أصبحت هي المطلوبة شرعاً، لأنّ تحقيق المقاصد والأهداف الشرعية هو المطلوب، والوسائل إلى ذلك تكون مطلوبة بمقدار تحقيقها لتلك الأهداف.
لذلك يكون من طبيعة الوسائل أنّها قابلة للتغير بخلاف الأسباب، فهي أحكام شرعية وضعية غير قابلة للتغير. فإذا كان صيام رمضان من أوله إلى آخره بدون زيادة أو نقصان هو المقصد والهدف، لأنّه الحكم التكليفي، فإنّ رؤية الهلال أو إكمال العدّة، هي الوسيلة التي أمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنّها تحقق الهدف بيسر وسهولة، وبأكبر قدر من اليقين في ذلك العصر.
وهذا من أسباب اختيارنا التفريق بين السبب والعلّة، وترجيحنا (أنّ السبب ما لم تكن بينه وبين الحكم مناسبة) فهو بهذا المعنى غير قابل للتغير، أمّا إذا كانت بينه وبين الحكم مناسبة، فهو عند ذلك يأخذ حكم العلّة، والعلّة تدور مع المعلول وجوداً او عدماً كما هو معروف عند الأصوليين.
خامساً: إذا قلنا أنّ رؤية الهلال هي السبب الشرعي للصيام، فقد ورد تعليلها بالنص، وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنّا أمّة أميّة، لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا، يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين). ومن الواضح أنّه لم يقصد حساب الأرقام، فقد أرشدنا في نهاية الحديث إلى عدّö الأيام وحسابها تسعة وعشرين أو ثلاثين. إنّما المقصود بالحساب هنا حساب منازل القمر، وقد كان معروفاً عند العرب بشكل بدائي وعند القلّة من الناس، ولم يكن هذا العلم قد بلغ درجة اليقين كما هو عليه اليوم. وقد بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدم معرفة العرب بالحساب الأخذ بما هو يقيني، وهو أنّ الشهر يكون تسعاً وعشرين أو ثلاثين، وهذه مسألة أقرّها النص المعصوم ويؤكّدها علم الفلك. أمّا كيف يُعرف أنّ الشهر تسعاً وعشرين أو ثلاثين فهو غير ممكن في ذلك العصر إلاّ بالرؤية أو بإكمال العدّة، ولذلك ورد الأمر بالأحاديث الأخرى بإلتزام الرؤية لأنّها الوسيلة الوحيدة المقدروة للناس (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته...)، (لا تصوموا حتّى تروا الهلال ولا تفطروا حتّى تروه ...).
- والغريب أنّ كثيراً من العلماء اعتبروا وصف الأمّة بالأميّة وأنّها (لا تكتب ولا تحسب) دليلاً على تعليق الصوم على الرؤية وليس على الحساب، وأنّ هذا الحكم يستمّر ولو وجد بعدهم من يعرف الحساب كما يقول ابن حجر. أو إنّ القول (إنّا أميّة أميّة لا نكتب ولا نحسب) هو خبر تضمّن نهياً، فإنّه أخبر أنّ الأمّة التي اتبعته هي الأمة الوسط، أميّة لا تكتب ولا تحسب، فمن كتب أو حسب لم يكن من هذه الأمة في هذا الحكم، بل يكون قد اتبع غير سبيل المؤمنين الذين هم هذه الأمّة، فيكون قد فعل ما ليس في دينها، والخروج عنها محرّم منهي عنه، فيكون الكتاب والحساب المذكوران محرّمين منهياً عنهما، كما قال ابن تيمية ثم زاد في المبالغة فقال: (إنّ الأميّة المذكورة هنا صفة مدح وكمال من وجوه: من جهة الاستغناء عن الكتاب والحساب بما هو أبين منه وأظهر وهو الهلال، ومن جهة أنّ الكتاب والحساب هنا يدخلهما غلط، ومن جهة أنّ فيهما تعباً كثيراً بلا فائدة. وإذا كان نفي الكتاب والحساب عنهم للاستغناء عنه بخير منه، وللمفسدة التي فيه، وكان الكتاب والحساب في ذلك نقصاً وعيباً، بل سيئة وذنباً، فمن دخل فيه فقد خرج من الأمّة الأميّة فيما هو من الكمال والفضل السالم عن المفسدة، ودخل في أمر ناقص يؤديّه إلى الفساد والاضطراب).
ومن الواضح هنا أنّ النهي عن الحساب في مسألة الهلال قد بناها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على ما كان معروفاً في عصره، وهو (أنّ الحساب يدخله الغلط، وان فيه تعباً كثيراً بلا فائدة، وإنّ رؤية الهلال هي أبين وأظهر من الحساب) وهذه أمور لم تعد موجودة، فالحساب بالنسبة لحركة الهلال وولادته لا يدخله الغلط إلاّ بنسبة ضئيلة جداً لا عدّة بها، بينما احتمال الغلط في رؤية الهلال أكبر بكثير. ولم يعد علم الفلك يحتاج لتعب كثير، بل هو علم ميسور في الجامعات، ولا يشك أحد في فائدته بعد أن اعتمد عليه العلماء في الوصول إلى القمر، ولم تعد رؤية الهلال أبين وأظهر من الحساب في معرفة دخول الشهر.
أمّا القول بأنّ الحديث (إنّا أمّة أمية لا نكتب ولا نحسب) هو خبر تضمّن نهياً، وإنّ الكتاب والحساب محرّمين منهياً عنهما، وإنّ الأميّة المذكورة هنا هي صفة مدح وكمال، وإنّ من دخل في الكتاب والحساب فقد ارتكب سيئة وذنباً، وخرج من الأمّة الأميّة فيما هو من الكمال والفضل ...).
إنّ هذا القول مبالغة خاطئة، فالنص النبوي الكريم خير تضمن وصفاً لواقع وليس ملتصقاً بهذه الأمّة، فضلاً عن أن يكون صفة مدح وكمال وقد حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على نشر التعليم بين الصحابة، ومن المعروف أنّ جميع العلوم تتراوح بين أن تكون فرض عين أو فرض كفاية أو مستحبّة، ولم ينه الإسلام إلاّ عن علم النجوم الذي يَستدل على الحوادث بحركة الأفلاك، فهو شعبة من السحر أو إدّعاء لعلم الغيب، أمّا علم النجوم بمعنى حساب سيرها لتحديد أوائل الشهور فلا خلاف بين الفقهاء في جوازه، بل ذهب جمهورهم إلى أنّه فرض كفاية، فلا يمكن أن يُفهم وصف الأمّة بالأميّة (وإنّها لا تكتب ولا تحسب) على أنّه نهي عن التعلّم والحساب، فيما النصوص الكثيرة في القرآن الكريم والسنّة المطهّرة تأمر بطلب العلم والحساب ويشجّع عليه.
يضاف إلى ذلك أنّ النهي عند الأصوليين، إذا لم يكن بصيغة صريحة من الصيغ المعروفة فإنّه لا يمكن استنتاجه من الصيغ الأخرى إلاّ إذا رتبت على فعل معين: عقوبة أو وعيد أو لعنة، أو وصفت هذا الفعل بأنّه من الذنوب أو أنّه عدوان أو ظلم أو إساءة أو فسق، أو شبّهت الفاعل بالبهائم أو الشياطين أو الكفرة، أو الخاسرين. أي لا بدّ من قرينة تصرف الوصف إلى النهي. وليست هذه القرينة موجودة لا في نفس النص ولا في غيره من النصوص.
- لو اعتبرنا أنّ وصف الأمّة بالأميّة دليل على تعليق الصوم بالرؤية، فإنّه لا يمكن أن يكون دليلاً على عدم جواز تعليق الصوم بالحساب، فليس في النص أي إشارة إلى ذلك على الإطلاق، بل إنّ مجرّد صفة الأميّة يشير إلى علّة الاعتماد على الرؤية دون الحساب، فإذا تعلّمنا الحساب لم نعد أمييّن في هذا المجال، وبالتالي يمكننا أن نعتمد على الحساب كما نعتمد على الرؤية.
- يؤيّد ذلك أنّ معرفة دخول الشهر تعتبر من مسائل العادات، ولا علاقة لها بالتعبّد إلاّ من حيث انّنا لا ندخل في عبادة معيّنة إلاّ بعد معرفة وقتها. وقد غلَّب الشارع في العبادات جهة التعبّد التي يندر التعليل فيها، كما غلَّب في العادات جهة الالتفات إلى المعاني واكتشاف العلل كما أشار إلى ذلك الشاطبي، وبيَّن أنّ الشارع: (توسع في بيان العلل والحكم في باب تشريع العادات، وأكثر ما يعلّل فيها بالمناسب الذي إذا عُرض على العقول تلقتّه بالقبول، ففهمنا من ذلك أنّ الشارع قصد فيها اتباع المعاني لا الوقوف مع النصوص). وقد ذكر الشيخ علي السبكي: (فحيث ثبت حكم وهناك وصف صالح لعلية ذلك الحكم، ولم يوجد غيره، يحصل ظنّ أنّ ذلك الوصف علّة لذلك الحكم، والعمل بالظنّ واجب).
المبحث الخامس: الأدلّة على أنّ دخول شهر رمضان، هو السبب الشرعي لوجوب الصيام.
أولاً: القرآن الكريم: دخول شهر رمضان هو السبب الشرعي للصيام:
قال تعالى: ﴿شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس، وبينّات من الهدى والفرقان. فمن شهد منكم الشهر فليصمه﴾. فما معنى شهود الشهر؟
- شهد في اللغة بمعنى حضر. شهده شهوداً أي حضره، قال ابن منظور: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) معناه من شهد منكم المصر في الشهر، لا يكون إلاّ ذلك، لأنّ الشهر يشهده كل حيّ فيه. قال الفراء: المعنى: (فمن شهد منكم في الشهر، أي كان حاضراً غير غائب في سفره).
- قال القرطبي في تفسير هذه الآية: (فيها إضمار، أي من شهد منكم المصر في الشهر عاقلاً بالغاً صحيحاً فليصمه).
- وذكر الطبري في تفسير الآية ثلاثة أقوال كلّها تدور حول هذا المعنى وهي:
أ- من دخل عليه شهر رمضان وهو مقيم في داره فعليه صوم الشهر كلّه غاب بعد أو سافر، أو أقام ولم يبرح.
ب- من شهد منكم الشهر فليصم ما شهد منه (أي فليصم الأيام التي كان فيها مقيماً غير مسافر).
ج- من دخل عليه شهر رمضان وهو صحيح عاقل بالغ فعليه صومه.
- وقد فسّر الجصاص (شهود الشهر) المذكور في هذه الآية بالأحاديث التي تعلّق الصيام على رؤية الهلال فقال: (اتفق المسلمون على معنى الآية والخبر في اعتبار رؤية الهلال في إيجاب صوم رمضان، فدلّ ذلك على أنّ رؤية الهلال هي شهود الشهر). لكن من الواضح أن الجصاص يحاول هنا تفسير شهود الشهر بأحاديث الرؤية، هذه المحاولة تتعارض مع تفسير المفسّرين الآخرين بأن شهود الشهر يعني حضوره، وهو تفسير يؤيده الجصاص نفسه الذي استدّل بهذه الآية الكريمة: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) على النهي عن صيام يوم الشك من رمضان، بحجّة: (أنّ الشاك غير شاهد للشهر، إذ هو غير عالم به، فغير جائز له أن يصومه عن رمضان)، والعلم بالشهر أوسع من حضور الشهر كما هو ظاهر، لأنّ الحضور يستلزم العلم، أمّا العلم فقد لا يستلزم الحضور.
- نخلص من ذلك أنّ شهود الشهر عند اللغوين وجمهور المفسرين يعني حضوره: أمّا قول الجصاص بأنّ (رؤية الهلال هي شهود الشهر) فغير مسلَّم، لأنّ رؤية الهلال تحدد بداية الشهر لا أكثر، وهي أمر يتعلّق بالهلال وبالشهر، أمّا الشهود فهو أمر يتعلّق بالإنسان المكلّف ومتى يجب عليه الصيام.
وإذا كان شهود الشهر يعني حضوره، فإنّ مقتضى ذلك أنّ السبب الشرعي لوجوب صيام رمضان حسب الآية الكريمة هو (دخول الشهر)، وهو سبب الموضوعي الذي يتعلّق بالمسلمين جميعاً. أمّا الشروط المطلوبة من كل منهم حتّى يجب عليه الصيام، فهي أن يكون مقيماً غير مسافر، سليماً غير مريض، عاقلاً غير مجنون، بالغاً غير صغير، (طاهرة غير حائض إذا كانت امرأة).
ثانياً: السنّة تؤكّد أنّ دخول رمضان هو السبب الشرعي للصيام.
1- وردت مئات الأحاديث الصحيحة في جميع كتب السنن وهي تتحدث عن صيام شهر رمضان وفضائله وما يتعلّق به من أحكام. ومقتضى هذه الروايات أنّ دخول الشهر هو السبب الشرعي لوجوب الصيام، إذ أنّ المفهوم الذي تبادر إلى الأذهان عند سماع قول النبي صلى الله عليه وسلم (من صام رمضان إيماناً واحتساباً ...) إنّ الصيام يجب على المسلم بدخوله شهر رمضان، لذلك نستطيع أن نقول بجزم أنّ السنة الصحيحة تؤكّد ما ورد في القرآن من أن دخول الشهر هو سبب الصيام.
2- وردت روايات أخرى كثيرة تبيّن للمسلمين كيف يعلمون دخول الشهر، وتحدد وسيلتين لذلك: رؤية الهلال أو إكمال العدّة إذا تعذّرت رؤية الهلال. قال صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غمّ عليكم فاقدروا له)، وفي رواية: (لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غمّ عليكم فاقدروا له) وعن رواية: (فإن غم عليكم فأكملوا العدّة ثلاثين) وفي رواية: (فإن غمّ عليكم فاقدروا ثلاثين).
ومما لا شك فيه أنّ رؤية الهلال دليل واضح على دخول الشهر، وأنّه إذا لم ير الهلال وكان الجو صافياً، فإنّ الإنسان يرجح أنّ الشهر لم يدخل، ولذلك وجب عليه أن يتمّ عدّة شعبان ثلاثين يوماً. أمّا إذا لم يُر الهلال وكان الجو غيم، فيحتمل أنّه موجود لكن الغيم غطّاه، ويحتمل أنّه غير موجود، وعلى المسلم أن يأخذ بالاحتياط ويُتم عدّة شعبان ثلاثين يوماً، ثم يبدأ صيام رمضان بعد ذلك.
3- هذا هو بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم لكيفية معرفة دخول الشهر، وهو يؤكد أن سبب الصيام هو دخول الشهر وليس رؤية الهلال. لأنّه يحدد طريقة أخرى إذا لم ير الهلال وهي إكمال العدة ثلاثين وهي طريقة لها معنى واحد هو أنّ إكمال العدّة يعني التأكّد من نهاية شهر وبداية شهر آخر، ولو لم ير هلاله. وهذا يؤكّد أنّ سبب الصيام هو دخول الشهر وليس رؤية الهلال.
4- بيّنت السنن الصحيحة أيضاً أنّ الشهر القمري يكون تسعة وعشرين يوماً، ويكون أحياناً ثلاثين يوماً، وهذه حقيقة علمية مؤكدة، لأن دورة القمر الشهرية تختلف بين شهر وآخر فتكون في الحد الأدنى (29) يوماً و(5) ساعات، و(44) دقيقة و(19) ثانية. وتكون في حدها الأقصى (29) يوماً و(9) ساعات و(45) دقيقة و(36) ثانية.وهكذا نرى أن المدّة الزمنية للشهر القمري تختلف بين شهر وآخر في السنة نفسها، وتختلف بين الشهر في سنة معينة والشهر المماثل له في سنة أخرى.
5- وإذا كان الشهر – فلكياً وشرعياً - يكون تسعة وعشرين يوماً أو ثلاثين يوماً، فقد بيَّنت السنّة المطّهرة الوسيلة المقدروة لتحديد بداية الشهر ونهايته في عصر النبوة، وهي رؤية الهلال، وإنّه إذا لم ير وجب على الناس إكمال عدة الشهر ثلاثين يوماً. وبسبب كثرة النصوص الصريحة الصحيحة وتنوّعها، منها ما يأمر بالصيام عند رؤية الهلال، ومنها ما يمنع الصيام قبل رؤية الهلال، فقد مال جمهور الفقها إلى اعتبار الرؤية هي السبب الشرعي للصيام.
لكن من الواضح أنّ رؤية الهلال أو إكمال العدّة لا توصل دائماً إلى العلم اليقيني ببداية الشهر أو نهايته، فقد يبدأ الشهر ولا يُرى هلاله، فيبدأ الصيام في اليوم التالي، وقد ينتهي الشهر ولا يُرى هلال الشهر التالي، فتكمل العدة فيكون الشهر الحقيقي تسعة وعشرين يوماً. لكن بسبب عدم توفّر وسيلة أخرى أكثر يقيناً، فقد بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ هذا الخطأ متغيّر فقال: (الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحّون)، (فطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحّون).